(خطر الركون إلى متاع الدنيا - أهمية استشعار المسؤولية)
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
المقدمة:
- التذكير بفضل القصة، حيث الوقوف على الدروس والفوائد الكثيرة مِن هذه القصة العظيمة، التي مِن أجلها نزل القرآن الكريم.
- التنبيه على أهميتها وأثرها على قلوب الصالحين: "كان الإمام أحمد إذا قرأ الآيات: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ... ) (التوبة:118)، بكى أشد مما يبكي في غيرها!".
- تذكير موجز لما سبق في الموعظة السابقة، ثم الوقوف على الفوائد مِن خلال مواضع حديث كعب -رضي الله عنه-.
1- خطر فتنة الدنيا والركون إلى متاعها:
- ما هو متاع الحياة الدنيا؟ (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14).
- كاد السابقون أن يهلكوا بسبب متاع الدنيا: قال كعب -رضى الله عنه-: "كَانَ مِنْ خَبَرِي: أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ، فِي تِلْكَ الغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ... " ثم بيَّن السبب فقال: "وَغَزَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ... ". أَصْعَرُ: أي أميل.
- انظر أثر فتنة المال وطلب الراحة على الصالحين (شهدوا العقبة وبدرًا) فكيف بمَن دونهم؟! قال الله -تعالى-: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
- واعلم -رحمك الله- أن الأموال والأولاد والأزواج وسائر المتاع (نعمة أو نقمة): عن بريدة -رضي الله عنه- قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15)، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ)، ثُمَّ أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ. (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) (رواه مسلم).
2- أهمية استشعار المسؤولية:
- المقصود مِن ذلك: أن بعض الناس يهرب مِن العمل للدين وتحمل المسؤولية، وإن اختلفت الأعذار والتأويلات، فمنهم مَن يؤثر البُعد وعدم المشاركة مِن باب: "لا أحب المشاكل"، ومنهم مَن يفتعل الأعذار "لو استطعنا لخرجنا معكم"، ومنهم مِن باب: "بيوتنا عورة"، ومنهم مِن باب: "ائذن لي ولا تفتني"، ومنهم مِن يقول: "العاملون كثير، وغيابي لن يؤثر".
- وهذا الأخير الذي وقع فيه الثلاثة -رضي الله عنهم- (1 في 30000): قال كعب -رضي الله عنه-: " وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ الدِّيوَانَ-، قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ" (فماذا لو قال الناس جميعًا ذلك؟! أو قال نصفهم ذلك؟!).
مواقف مشرفة في استشعار المسؤولية:
- وعلى الجانب الآخر كانت هناك صور رائعة في استشعار المسؤولية تغلبت على العوائق والفتن والصعاب.
أولًا: موقف أبي ذر الغفاري:
قال ابن إسحاق -رحمه الله: "ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرًا، فجعل يتخلف عنه الرجل، يقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله -تعالى- بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه؛ وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره! ثم خرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر مِن المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كن أبا ذر. فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده"(1) (السيرة لابن هشام، 4/ 178).
ثانيًا: موقف أبي خيثمة:
قال ابن إسحاق: "ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنَصَف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهيِّئا لي زادًا، ففعلتا، ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عميرُ بن وهب الجمحي في الطريق، يطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترافقا، حتى إذا دنوا مِن تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لي ذنبًا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففعل حتى إذا دنا مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بتبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كن أبا خيثمة"، فقالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو خيثمة، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوْلى لك يا أبا خيثمة" (السيرة النبوية لابن هشام)، (البداية والنهاية، 5/ 8).
ثالثًا: موقف لداعية معاصر:
"الشيخ عبد الرحمن السميط -رحمه الله- أسلم على يديه ما يقرب مِن 11 مليون في أفريقيا مِن خلال مؤسسة "العون المباشر"، وأقام أكثر مِن 5000 مسجد، ووزع خمسة ملايين مصحف!".
فهلا استشعرنا مسؤولية نصرة الدين والعمل لأجله؟!
ومَن عليه مسؤولية مواجهة كل هذا الانحراف الذي تعيشه مجتمعات المسلمين؟! إنها مسؤوليتي أنا وأنت.
فماذا نقدِّم نحن لنصرة دين الله؟!
فاللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومضى الزمان وجاء عصر عثمان -رضي الله عنه-، ثم حدثتْ أمور، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امراته وغلامه: "إذا مت فغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر، صاحب رسول الله"، فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركابهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهطٍ مِن الكوفة، فقال: "ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر"، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: "صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده" فنزل فوليه بنفسه حتى دفنه. (سيرة ابن هشام).