كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أثار وجود اسم الشيخ "سعيد عبد العظيم" بيْن الموقـِّعين على "نداء الكنانة" الكثير مِن اللغط، وأيًّا ما كان مِن ملابسات ذلك التوقيع؛ يبقى أن كلام الشيخ "المُثبت في خطبه ودروسه وكتبه" هو -بحمد الله- موافق لقول مشايخ الدعوة السلفية، وموافق لقول علماء المنهج السلفي ودعاته، وعلى الأخص كتاب: "تحصيل الزاد لتحقيق الجهاد" والذي كتبه في فترة تَصاعد عنف الجماعة الإسلامية في أوائل التسعينيات، وكتب في مقدمة الطبعة الثانية منه ثناءً على مبادرة وقف العنف للجماعة الإسلامية، ونقل عن البعض أنها تأخرت نحوًا مِن عشرين سنة، ونحن نتعرض في هذا المقال لأهم ما ورد في هذا الكتاب؛ لتذكير الجميع -بما في ذلك الشيخ نفسه- بالمنهج الذي قضى عمره الدعوي في نشره.
وإليك هذه النقول المنتقاة مِن الكتاب:
- مبادرة الجماعة الإسلامية قطعتِ الطريق على المزايدين، بعكس الكلمات المُجْمَلة التي قيلتْ في إيقاف العنف قبل ذلك بسنوات:
في مقدمة "الطبعة الثانية" مِن الكتاب التي صدرت بعد "مبادرة الجماعة الإسلامية"، أثنى الشيخ على "مبادرة الجماعة الإسلامية" قائلاً: "فقد توالتْ وتسارعت الأحداث في الآونة الأخيرة داخليًّا وخارجيًّا؛ ففي الداخل سمعنا عن مبادرة إيقاف العنف التي طرحتها الجماعة الإسلامية في نحو مِن ستمائة صفحة، وقد كتبها اثنان مِن قادة الجماعة الثمانية، وأقرها بقية القادة الثمانية، وحظيت بموافقة أفـراد الجماعة الإسلامية في الداخل والخارج، وكانت أشبه بقنبلة أحدثت دويًّا شديدًا لما فيها مِن مراجعة وتراجع في الكثير مِن المسائل؛ كقضية قتل "السياح"، والاستيلاء على أموال أهل الكتاب والتكفير، وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من المسائل التي انطوت على تخطئة صريحة للنفس، وإقرار بأن الذي استفاد مِن أحداث العنف هم اليهود وأمريكا والغرب، وتوضيح بأنهم سينخرطون في صفوف الدعاة إلى الله، وقـد علـَّق البعض على المبادرة بأنها تأخرت عشرين سنة، وتكلم آخرون على براعة التوقيت، واستبشر عموم الخلق بالمبادرة التي مِن شأنها أن تحقن دماء المسلمين، وأن تغلق أبواب الصد عن سبيل الله، والتنفير مِن طاعة الله تحت لافتة مكافحة الإرهاب!
ولا يليق بنا ولا بغيرنا أن نقف في مواطن الأستاذية أو الشماتة والتشفي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بالله مِن شماتة الأعداء، ويبين أن كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوَّابون، وأن المؤمن مرآة أخيه، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبراعة التوقيت التي يتكلم عنها البعض إنما هي توفيق وتسديد؛ لأنها خطة محبوكة إذ تأخير التوبة ذنب تجب التوبة منه، والمسلم يعلم أنه إذا أخطـأ وجـب عليه أن يتوب مِن قريب، وأن تكون توبته خالصة لوجه الله، لا لحيازة مغنم أو دفع مغرم، وقد قطعتِ المبادرة الطريق على المزايدين، بعكس الكلمات المُجْمَلة التي قيلتْ في إيقاف العنف قبْل ذلك بسنوات" اهـ.
- ليس كل مَن استحق العزل يُعزل:
تعرض الشيخ للأسباب التي تقتضي عزل الحاكم، ثم تعرض بعدها لمسألة أخرى تحت عنوان: "هل كل مَن استحق العزل لا بد أن يُعزل؟" وقرر فيها أنه ليس كل مَن استحق العزل يُعزل، وهذا يرد على هذا البيان إذا تم التسليم لهم بكل ما قالوه دون تفصيل؛ لأنه سوف يصطدم في النهاية بهذه المسألة المبنية على قواعد الشريعة في عدم إنكار المنكر بمنكر أعظم.
- قال الشيخ "سعيد عبد العظيم" تحت عنوان: "هل كل مَن استحق العزل لا بد أن يُعزل؟":
"ليس كل مَن استحق العزل يعزل، وإنما يُنظر إلى ما سيترتب على هذا العزل؛ فإن ترتب عليه فتنة أكبر لم يجز العزل والخروج عليه، كما لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه، أما إذا أُمِنَت الفتنة وقُدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة؛ فلا بأس حينئذٍ، ومسألة عزل الحاكم داخلة ضمن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يدخل فيها أيضًا النصيحة والدعوة، والجهاد، وإقامة المجتمع المسلم؛ وبالتالي فلا بد مِن مراعاة فقه الإنكار، وهذا يستلزم أن ننظر بعين الاعتبار إلى أمور ثلاثة:
1- التحقق مِن أن الحاكم قد أتى ما يستوجب العزل.
2- هل عندنا الاستطاعة على عزله أم لا؟ وذلك لأن هذا الواجب يسقط بالعذر والعجز وعدم الاستطاعة حتى إن تحققنا أنه يستوجـب العزل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة:268)، وفي الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فرتَّب النبي -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على الاستطاعة.
3- هل المصلحة محققة بعزله أم لا؟، حتى إن استوجب الإمام العزل وكانت عندنا الاستطاعة على عزله، وذلك لأن شرع الله مصلحة كله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شُرِع لجلب مصلحة ولدفع مفسدة، فلا يجوز أن نزيل كافرًا ونأتي بمن هو أكفر منه، أو نجعل الكفار يتمكنون مِن البلاد والعباد بخروجنا على الحاكم، والأمر كما ترى يتطلب معرفة شرعية وبصيرة بالواقع وقدرة على وزن المصالح والمفاسـد دون حيــف أو ميـل (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان تحت عنوان: "عزل الخليفة": الأمة هي التي تختار الخليفة، فلها حق عزله؛ لأن مَن يملك حق التعيين يملك حق العزل، ولكن استعمال هذا الحق يقتضي وجود المبرر الشرعي وإلا كان تعسفًا في استعمال الحق، واتباعًا للهوى، وهذان لا يجوزان في شرع الإسلام، والمبرر الشرعي لعزل الخليفة: خروجه عن مقتضى وكالته عن الأمة خروجًا يبرر عزله، أو عجزه عن القيام بمهام الخلافة، وهذا ما صرَّح به الفقهاء؛ فالإمام ابن حزم يقول -وهو يتكلم عن الإمام- ما نصه: "... فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله -تعالى- وسنة رسوله الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن زاغ عن شيء منهما مُنع مِن ذلك وأُقيمَ عليه الحد والحق، فإن لم يُؤمَن أذاه إلا بخلعه؛ خُلِعَ وولي غيره.
ومِن أقوال الفقهاء أيضًا: وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل: أن يبدر منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها.
ومِن أمثلة العجز عن مهام الخلافة الموجب لزوالها عنه أو عزله واختيار غيره لمنصب الخلافة: جنونه المطبق، وعماه، وأسره بيد العدو على وجه لا يُرجَى خلاصه؛ لعجزه عن النظر في أمور المسلمين، فيختارون غيره ليقوم بمصالح المسلمين".
- وتحت عنوان: "تنفيذ العزل" يقول: "وإذا كانت الأمة تملك حق عزل الخليفة عند وجود السبب الشرعي الداعي لذلك؛ إلا أنه يجب أن يُعرَف جيدًا بأن مجرد وجود السبب الشرعي للعزل، لا يعني بالضرورة لزوم تنفيذ العزل؛ لأنه عند التنفيذ يجب أن يُنظـَر في إمكانه ونتائجه، فإذا كان تنفيذه ممكنًا ورؤي أنه لا تترتب على العزل نتائج مضرة بالأمة تربو على عدم عزله؛ وجب العزل في هذه الحالة، وإذا رؤي أن التنفيذ غير ممكن أو ممكن بذاته، ولكن تترتب عليه نتائج مضرة بالأمة تزيد على أضرار بقائه وعدم عزله؛ وجب أو ترجح عدم التنفيذ؛ لأن مِن قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يكون العمل على إزالة المنكر مستلزمًا أو مقتضيًا وقوع منكر أعظم منه، وعزل الخليفة مِن النهي عن المنكر؛ فيخضع لهذه القاعدة" اهـ.
ويُلاحَظ أن الكلام في هذه الفقرة بالذات لم يكن مِن إنشاء الشيخ، وإنما نقله عن أهل العلم المتقدمين؛ كابن حزم -رحمه الله- وغيره، كما في العبارات التي تحتها خط.
- المودودي: "ولا تلجئوا إلى استعمال العنف والقوة والسلاح لتغيير الأوضاع":
في ثنايا تقريره لقاعدة مراعاة المصالح والمفاسد في قضية إنكار المنكر ودفع المظالم، نقل الشيخ عن "المودودي" نهيه عن السرية وعن العنف، وعن الاستعجال، كما نقل عن غيره، ولكننا نكتفي بنقل المودودي؛ لوضوحه ولكونه أحد مَن نسب إليهم المسئولية عن بذور التكفير؛ فكيف بغيره؟!
- يقول الشيخ سعيد عبد العظيم: "ويقول المودودي في كتاب (واجب الشباب اليوم... محنة الجماعة الإسلامية): "أيها الإخوة الكرام، أحب في ختام كلمتي هذه أن أوجِّه إليكم نصيحة، هي أن لا تقوموا أبدًا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف، ولا تلجئوا إلى استعمال العنف والقوة والسلاح لتغيير الأوضاع؛ لأن هذه أيضًا مِن الاستعجال، ومحاولة الوصول إلى الهدف بأقصر طريق، وهذا الأمر أسوأ عاقبة وأكثر ضررًا مِن كل صورة أخرى، إن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي -وسيحصل في المستقبل- بجمعيات علنية، يكون نشاطها واضحًا وضوح الشمس في رابعة النهار لكل إنسان، فعليكم أن تنشروا دعوتكم بطريق علني، وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم في أوسع نطاق، وتسخـِّروا الناس لغاياتكم بأسلحة من الخُلق الكريم والفضيلة، وأن تواجهوا كل ما يُقابلكم مِن المحن والشدائد مواجهة الأبطال، فهذا هو الطريق الذي سيمكننا مِن عمل انقلاب عميق الجذور، راسخ الأسس، قوي الدعائم، كبير النفع في حق هذه الأمة المسكينة، ولا يمكن لأية قوة معادية أن تقف في وجهه.
وأقول: إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، أما إذا استعجلتم وقمتم بانقلاب بوسائل العنف ونجحتم إلى حد ما؛ فسيكون مثله كمثل الهواء الذي يدخل مِن الباب ليخرج مِن الشباك، هذه هي النصائح التي أوجهها لكل مَن يقوم بأمر الدعوة" اهـ.
و"المودودي" يتحدث هنا عن محنة الجماعة الإسلامية في باكستان، ومع هذا لم تعِ الجماعة الإسلامية في مصر الدرس إلا بعد عشرين سنة، وها هو "نداء الكنانة" يريد أن يكرر مآسي الأربعينيات والخمسينيات عند الإخوان، ومآسي التسعينيات عند الجماعة الإسلامية!
- الاغتيالات السياسية مفسدة وغدر، وإخلال بشروط إقامة الحد حتى مع المرتد:
وحيث إن الاغتيالات السياسية المستندة إلى فتاوى بكفر الشخص المستهدف أو -على الأقل- تلبسه بما يوجب قتله كانت هي السمة الغالبة لعنف التسعينيات؛ فقد وجَّه لها النقد، وإن كان لم يغفل نقد دعوى التفجير المستندة إلى شبهة: "يبعثون على نياتهم"، ولكنه أفرد الحديث على الاغتيالات السياسية؛ فاستنكر اغتيال حتى مَن ثبتت عليه الردة -وبلا شك غير المرتد مِن باب أولى-، فقال طارحًا لأسئلة لا بد منها في هذه القضية:
"الاغتيالات السياسية:
وهنا لا بد مِن طرح عدة أسئلة والإجابة عليها: لماذا قُتِل واغتيل؟ وهل ذلك لكفره وردته أو لكونه يصول على المال والعرض والدين؟ وهل استتيب؟ ومَن الذي استتابه؟ وهل نستبعد وقوع القتل للآخرين أثناء الاغتيال؟ ثم ما المصلحة مِن وراء ذلك؟ وهل يجوز الغدر؟!".
ثم بدأ بأسوأ مَن يُستهدفون -وهم مَن يُظن بهم الردة- قائلاً: "لا يقتل المرتد حتى يستتاب ثلاثًا"، وساق نقلاً عن "ابن قدامة" -رحمه الله- في "المغني" في أحكام المرتد ومنه قوله: "الفصل الثالث: أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثًا، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم: عمر وعلي، وعطاء والنخعي ومالك والثوري، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، وهو أحد قولي الشافعي: إلى أن قال: ولنا حديث عمر، ولأن الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال، فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها، وأولى ذلك ثلاثة أيام؛ للأثر فيها، وأنها مدة قريبة، وينبغي أن يُضيَّق عليه في مدة الاستتابة ويحبس؛ لقول عمر: هلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفًا؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه".
ثم قال: "فهل ترى الردة تبرر الاغتيال على هذا النحو؟ وقد ذكرتُ الفرق بين النوع والمعيَّن، وكيفية إقامة الحجة تحت عنوان: "تكفير المسلمين لتبرير قتلهم وقتالهم" فراجعه".
- النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل ابن سلول "رأس النفاق"... فليس كل مَن يستحق القتل يُقتل:
ثم تطرَّق إلى مسألة أخرى غير مسألة الاستتابة، وهي مسألة المصلحة والمفسدة، حتى مع وجود الإمام وإمكانية الاستتابة وإقامة الحد فقال: "وقد لا يساوي الإنسان ثمن الرصاصة التي تُطلق عليه، ولا ثمن السكين التي يقتل بها، فهو أهون على الله مِن الجِعْلان، ومن الحيوانات المؤذية التي شرع الإسلام قتلها، ولكن يبقى النظر ما المترتب على قتل هذا الإنسان واغتياله؟ خصوصًا والإنسان إذا ما استحق القتل فشأنه كشأن سائر المنكرات، والمنكر لا يُزال بمنكر أعظم؛ فلا بد مِن إخضاع الأمر لقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر؛ لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص مَن يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام، وعلى هذا: إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بيْن معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا أو يتركوهما جميعًا لم يجز أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أُمر به وإن استلزم ما هو دونه مِن المنكر، ولم يَنـْهَ عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذٍ مِن باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نُهي عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه مِن المعروف.
ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا منكرًا وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان؛ لم يؤمر بهما، ولم يُنهَ عنهما؛ فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة، أما مِن جهة النوع؛ فيؤمر بالمعروف مطلقًا، ويُنهي عن المنكر مطلقًا.
وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يُؤمر بمعروفها، وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها، ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بالمعروف فوات معروف أكبر منه، أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه، وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن، حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية، وإذا تركها كان عاصيًا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه مِن الأمر معصية، وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومِن هذا الباب: إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن أُبي وأمثاله مِن أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم مِن أعوان، فإزالة منكره بنوع مِن عقابه مستلزمة إزالةَ معروف أكثر مِن ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به، واعتذر منه، وقال سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه؛ حمي له سعد بن عبادة، مع حسن إيمانه وصدقه، وتعصبت لكل منهم قبيلة حتى كادت تكون فتنة" اهـ.
ثم ختم نقوله عن ابن تيمية وغيره في تلك المسألة الهامة بقوله: "وما أكثر الفتن التي تنجم من حوادث الاغتيال، وعدم التعرُّف على ضوابط الإنكار!".
- الغدر كبيرة مِن الكبائر:
ثم تطرق إلى مسألة لا تنفك عنها حوادث الاغتيال -وهي الغدر- فقال: المؤمن مِن شأنه أن يُعظم حرمات الله تعالى وشعائره: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)، ولذلك فهو يتباعد بنفسه عن الكبائر والصغائر، وإذا اشتبه عليه أمر رده لعالمه، والوَرع من الدين كما يقول العلماء.
وقد ورد في تحريم الغدر نصوص كثيرة، منها قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، وقوله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء : 34)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (متفق عليه).
وعن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهما- قالا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلا وَلا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ) (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -تعالى-: (قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ) (رواه البخاري).
وفي الحديث: (لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني)، وسأل رجلٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) (رواه البخاري).
ولا يسعنا بعد ذلك إلا أن نحرِّم الغدر في كل صوره وأشكاله، قال الله -تعالى-: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (الأنفال:58). أي: إذا ظهرت خيانة مَن عاهدتهم وثبتـت دلائلها فأعلِموهم بنقض عهدهم حتى تستووا معهم في العلم؛ لأن الله -تعالى- لا يحب الخائنين، ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين، وكانوا في نقض العهد بادين.
وعندما جاء أبو جندل -رضي الله عنه- يستصرخ بالمسلمين يوم الحديبية أن يؤووه ويحموه مِن قريش، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ) (رواه أحمد بسند حسن، وأصل قصة رد النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي جندل أخرجها البخاري في صحيحه). وكان مِن شروط معاهدة الحديبية التي أبرمها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع سهيل بن عمرو أن مَن يأتي مِن قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا يرده ولا يؤويه!
وقد ذكر الفقهاء أنه لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم؛ لأن خيانتهم غدر، ولا يصلح الغدر في دين الإسلام، وقال سليم بن عامر: كان بيْن معاوية والروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ؛ فَلا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، فرجع معاوية.
وقال فقهاء الحنابلة: إذا أطلق الكفارُ الأسيرَ المسلم واستحلفوه أن يبعث إليهم بفدائه أو يعود إليهم؛ لزمه الوفاء، قال الله -تعالى-: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) (النحل:91)، وإذا كانت دار الحرب تأخذ مِن رعايا دار الإسلام الداخلين إلى إقليمها ضريبة على أموالهم التي معهم بحيث تستأصل هذه الأموال، أو تأخذ مِن أموالهم القليلة ضريبـة كبيرة لا تتناسـب مع أموالهم؛ فإن دار الإسلام لا تقابلهم بالمثل، ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأن فعل أهل دار الحرب غدر وظلم، فلا نقابلهم بالغدر والظلم، بل مِن عجيب ما ذُكِر إقرارهم عهد المسلم، بل عهد العبد منهم يؤمِّن طائفة مِن المحاربين! فقد كتب أبو عبيدة وهو قائد الجيش إلى عمر: "إن عبدًا أمَّن أهل بلدٍ بالعراق وسأله رأيه، فكتب إليه عمر: "إن الله عظيم الوفاء، ولن تكونوا أوفياء حتى تفوا، فوفوا إليهم وانصرفوا عنهم"، والعبد لا يضيع بطاعته لربه.
ولا نظن أبدًا أن الصحابة -رضي الله عنهم- ضاعوا يومًا بوفائهم وعدم غدرهم، بل غيَّر بهم ربنا وجـه الأرض: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد:11)، فعلينا بطاعة الله والنزول على حكمه -سبحانه-، سواء أكنا حكامًا أو محكومين، فإننا ننال ما عند الله بطاعته (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7).
- شبهة قتل كعب بن الأشرف:
ثم تعرض لقصة كعب بن الأشرف، وهي حجة كلُّ مَن يسوِّغ الاغتيالات في صفوف مَن يظنهم مرتدين، ومَن يظنهم قتلة أو مغتصبين فساق -والقصة معروفة في كتب السيرة-، ثم قال: "فهل تصلح قصة قتل كعب بن الأشرف مستندًا لقتل بعض الجيش والشعب غدرًا، مع غلبة الظن -بل مع اليقين- بحصول المفسدة التي لا مصلحة فيها؛ اللهم إلا انجرار الأذى والمضرة على البلاد والعباد!".
- خاتمة: كيف نظرت الجماعة الإسلامية إلى بيان "نداء الكنانة"؟
بدأنا بأن الشيخ أصدر هذا الكتاب نصيحة للجماعة الإسلامية -ومَن نحى نحوها في التسعينيات-، وأنه أثنى في مقدمة الطبعة الثانية على مبادرة الجماعة الإسلامية؛ فكيف نظرت الجماعة الإسلامية إلى هذا البيان؟
تأتيك الإجابة على لسان الشيخ "أسامة حافظ" -القائم بأعمال رئيس مجلس شورى الجماعة الإسلامية- حيث نشر تصريحات حول هذا البيان قائلاً: "مثل هذه البيانات التي تُلقى هكذا بيْن الشباب المتحمس المندفع أمر خطير؛ إذ يستمدون منها مشروعية القتل، ولا يجدون فيها الشروط اللازمة، والموانع المانعة؛ فلا تحقيق ولا تدقيق، ولا قياس للمصالح ولا المفاسد المترتبة على ذلك، خاصة وأن أكثرهم لا يعيش التجربة، وإنما يعيش مع كلام الكتب".
وقال أيضًا: "هذا بسبب الصيحات المتصاعِدة هذه الأيام التي تشجِّع على قتل الشرطة والجيش بدعوى القصاص؛ متجاهلة أن القتل جريمة شخصية لا يؤخذ بها إلا صاحبها".
ووضَّح تجربة الجماعة الإسلامية في ذلك قائلاً: "نحن -ومِن واقع تجربة سابقة- نقول: إن مَن تغوص رجله في لجة القتل والسلاح يصعب عليه بمرور الوقت ضبط أعماله، وقد عرفتُ في الأحداث السابقة مَن قتل سائقًا رفض أن يحمل له جريحًا خوفًا مِن مسئولية ذلك، وعرفت مَن قتل أربعة مِن الفلاحين؛ لأنهم شاهدوهم وخافوا أن يدلوا عليهم، ومَن قتل رجلاً ظهر أمامه فجأة فسبق إلى ضربه ظنًّا منه أنه كان مختبئًا منه، ومثل ذلك مِن أعمال تلحظ فيها استسهال القتل وإطلاق النار بمرور الوقت واعتياد ذلك! وسيأتي يوم القيامة مدينًا للقتيل المظلوم".
ونحن بدورنا نتساءل: إلى متى يصر البعض على تكرار ذات الخطأ، ليس مرة واحدة، بل عدة مرات!
نسأل الله أن يهدينا جميعًا إلى ما اختلفوا فيه مِن الحق بإذنه.