كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتنتشر في هذه الأيام على ألسنة كثير من الناس كلمات: "حوار الحضارات"، و"صدام الحضارات"، وهذه الكلمات يختلف مدلولها حسب قائلها، وكلا الكلمتين عند الغرب يعني الهيمنة الغربية المطلقة على العالم، ولكن هل يأتي هذا بالتدرج وهو ما يسمونه: "حوارًا"، أو بالقوة المسلحة وهو ما يسمونه: "صدامًا".
وأما في أوساط المسلمين فمعظم الكتاب والمفكرين حتى الإسلاميين يرون أن أسمى ما يمكن الوصول إليه مع القوة الغربية الغاشمة هو السماح لبلاد المسلمين بقدر من التميز؛ لا سيما في مجال الأخلاق، وعدم مطالبتهم بأن يندمجوا تمامًا في ثقافة العري والإباحية والشذوذ وغيرها.. وهم يسمون ذلك "حوارًا"! وغني عن الذكر أن هؤلاء يفرون تمامًا من فكرة الصدام التي يرون أنها لا تخدم مصالح المسلمين.
ومما ينبغي أن يُنتبه له أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كغيره من الأنبياء هو الذي صادم عقائد قوم وطرقهم في الحياة؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الله -تعالى- قد أمره بأن يدعو إلى سبيله بالحكمة والبيان أولاً ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ثم بالسيف والسنان لمن أصر على العناد، وذلك عند وجود القدرة على ذلك.
وعدم وجود القدرة على المواجهة بالسيف والسنان لا يعني أبدًا أن يغير المسلم دعوته أو أن يداهن المشركين، وقد أنزل الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعد مازال مستضعفاً قوله: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9).
إذن فنحن ندعو إلى حوار مع كل الأديان نبين لهم من خلاله الحق من الباطل، وندعوهم أن يخرجوا من جور الأديان إلى عدل الإسلام، نحن ندعو إلى حوار نصادم فيه باطلهم بالحق الذي معنا.
ومن مواقف التاريخ الرائعة التي اشتملت على حوار حضاري بليغ معركة القادسية، التي سبقها حوار بين وفد المسلمين وبين كسرى، ثم تلاه حوار بين ربعي بن عامر -رضي الله عنه- وبين القائد رستم أبرز قواد كسرى، ومما يزيد من روعة هذا الحوار أنه كان بين يدي معركة فاصلة نصر الله فيها المسلمين على عدوهم نصرًا عزيزًا مؤزرًا.
وستلحظ أخي الكريم: أن هذه الحوارات الناطقة، تخللتها حوارات أخرى صامتة، فرستم يخرج في زينته ويفرش نمارقه وبسطه وربعي -رضي الله عنه- يخرقها له برمحه، ويدخل عليه بدابته، وغيرها من الحوارات التي لعلها كانت أبلغ من الحوارات الناطقة.
لقد كانت مفردات الحوار هي هي التي تكون بين حضارات الإسلام.. حضارات التوحيد والعبودية لله، والطهارة والنقاء، وبين حضارات الكفر على اختلاف أنواعها فُرسًا كانوا أو رومًا، شرقًا كانوا أو غربًا، فإنهم لا يعرفون إلا لغة الملك والجاه والسيادة، واستعباد البشر بعضهم لبعض، ولا يجيدون إلا لغة المفاوضات الدنيئة على ملك الدنيا ورياستها، ولا يقدمون إلى البشرية عندما يقودونها إلا الأغراض من الشهوات واللذات الدنيوية!
ولذلك حفظ التاريخ أكثر ما حفظ من هذه الحوارات تلك العبارة الجامعة المانعة التي قالها ربعي بن عامر -رضي الله عنه-: "إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة".
والآن نتركك -أخي الكريم- لتعيش لحظات مع هذه المواقف الناصعة للصحابة الكرام في مواجهة هؤلاء الطغاة.
أولاً: الحوار بين وفد سعد بن أبي وقاص وكسرى:
ذكر الإمام ابن كثير في البداية (7/41) عن سيف أن سعدًا -رضي الله عنه- كان قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطها الأرض بأرجلها؛ وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب. كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعُددها؟ ولما استأذنوا على الملك يَزدَجِرد أذن لهم وأجلسهم بين يديه -وكان متكبرًا قليل الأدب-، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها، وعن الأرِدية والنعال والسياط. ثم كلٌما قالوا له شيئاً تفاءل، فرد الله فأله على رأسه.
ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟! أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا؟
فقال له النعمان بن مُقرِّن -رضي الله عنه-: إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يَدعُ إلى ذلك قبيلة إلا وصاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص.
فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث.. ثم أُمر أن ينهض إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم، ففعل فدخلوا معه جميعًا على وجهين: مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد؛ فعرفنا جميعًا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين الإسلام، حسٌن الحَسَن وقبٌح القبيح كله. فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجزية قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددًا ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، ولا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرٌنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خِصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملٌكنا عليكم ملكًا يرفق بكم.
فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- فقال: أيها الملك، إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشرافَ الأشرافُ، ويعظم جقوق الأشرافِ الأشرافُ، وليس كل ما أُرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلاٌ ذلك فجاوبني، فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك.
إنٌك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع. كنا نأكل الخنافس والجعلان، والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه.
وكان حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً معروفًا نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرَنا في الحال التي كان فيها أصدَقَنا وأحلَمنا. فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول تِربٍ كان له وكان الخليفة من بعده. فقال وقلنا، وصدٌق وكذبٌنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئًا إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه.
فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا إن ربٌكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء، وإلىٌ يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلٌكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنٌه جاء بالحق من عند الحق. وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فأعرضوا عليه الجِزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخله جنتي، ومن بقى منكم أعقبته على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقالا: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، وقال: ائتوني بوِقر من تراب فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية وينكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابوره.
وقد نفذ كسرى ما هدد به وأرسل رستم قائده إلى المعركة ولكن بعد أن دب الوهن في قلبه وقلب قائده، فحاول رستم أن يتفادى المعركة بحوار مع الصحابة رضي الله عنهم، وكلما أنهى الحوار مع واحد طلب حواراً مع آخر حتى كان هذا الحوار الشهير مع ربعي -رضي الله عنه-.
ثم بعث سعد -رضي الله عنه- إليه -أي إلى رستم- رسولاً آخر بطلبه وهو رِبعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآليء الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتِكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النٌمارق فخرٌق عامتها.
فقالوا له: ما جاء بكم؟
فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى حلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أيداً حتى نفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله؟
قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى".
فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
قال: نعم، كم أحبُ إليكم؟ يومًا أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
فقال: ما سنٌ لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال: أسيدهم أنت؟
قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزٌ وأرجح من كلام هذا الرجل؟!
فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب! أما ترى ثيابه؟!
فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.