السؤال:
- البعض يستدل على الدخول في معابد وكنائس أهل الكتاب في أعيادهم وتهنئتهم، بما ورد في مسند الإمام أحمد من حديث عوف بن مالك الأشجعي الأنصاري -رضي الله عنه- قال: انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا كَنِيسَةَ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ، فَكَرِهُوا دُخُولَنَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَرُونِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلا يَشْهَدُونَ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يُحْبِطِ اللَّهُ عَنْ كُلِّ يَهُودِيٍّ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ الْغَضَبَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ). قَالَ: فَأَسْكَتُوا مَا أَجَابَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، ثُمَّ ثَلَّثَ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَقَالَ: (أَبَيْتُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْعَاقِبُ، وَأَنَا النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى، آمَنْتُمْ أَوْ كَذَّبْتُمْ).
ثُمَّ انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى إِذَا كِدْنَا أَنْ نَخْرُجَ نَادَى رَجُلٌ مِنْ خَلْفِنَا: كَمَا أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: فَأَقْبَلَ. فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: أَيَّ رَجُلٍ تَعْلَمُونَي فِيكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْكَ، وَلا أَفْقَهُ مِنْكَ، وَلا مِنْ أَبِيكَ قَبْلَكَ، وَلا مِنْ جَدِّكَ قَبْلَ أَبِيكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ لَهُ بِاللَّهِ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي التَّوْرَاةِ، قَالُوا: كَذَبْتَ، ثُمَّ رَدُّوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ، وَقَالُوا فِيهِ شَرًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَذَبْتُمْ لَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ، أَمَّا آنِفًا فَتُثْنُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا أَثْنَيْتُمْ، وَلَمَّا آمَنَ أَكْذَبْتُمُوهُ، وَقُلْتُمْ فِيهِ مَا قُلْتُمْ، فَلَنْ يُقْبَلَ قَوْلُكُمْ).
قَالَ: فَخَرَجْنَا وَنَحْنُ ثَلاثَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأحقاف:10)، (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني). والشاهد هنا في هذا الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على اليهود في كنيستهم يوم عيدهم.
- وأيضًا هناك مَن يستشهد بصلاة وفد نصارى نجران في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: إن صلاتهم فيها من التثليث والعقائد الباطلة ما هو معلوم، ومع ذلك شهدها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يمنعهم ذلك في مسجده -صلى الله عليه وسلم-. فإن كان قد أجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم الصلاة الباطلة في مسجده، وشهدها، ولم يعنِ ذلك إقرارهم عليها؛ فلم تعيبون اجتهاد من يدخل الكنيسة يوم عيدهم للتهنئة بلا إقرار، ونحن نهنئهم مجاملة وليس إقرارًا؟!
فما هو تعقيبكم على ذلك؟ وكيف نجمع بين هذين الشاهدين وقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (الفرقان:72)؟!
- وهل الدخول عليهم يوم عيدهم لغرض غير التهنئة يسوغ بهذه الأدلة؟ وهل الخلاف في هذه المسألة -أعني التهنئة- خلاف سائغ؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- فمن أعجب ما يقرأ المرء ويسمع: "الاستدلال بدليل على عكس المقصود منه"؛ فإن دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- على يهود في يوم اجتماعهم في عيدهم؛ كان لدعوتهم إلى الله، وأمرهم بالشهادتين، وليس في الحديث حرف واحد من التهنئة؛ وإلا لسعد اليهود بالزيارة -كما يسعد النصارى اليوم بمثل ذلك-، وما كرهوه كما هو نص الحديث.
فلو دخلوا عليهم وأمروهم بالشهادتين، والتوبة إلى الله مِن القول بميلاد الرب أو صلبه وقيامته من الأموات؛ فبها ونعمت، وسنذهب معهم يومها؛ ولو كان يوم عيد، بل يكون الدخول عليهم يوم العيد مِن جنس قول الله عن موسى -عليه السلام-: (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (طه:59).
وما قولهم: "مجاملة، وليس إقرارًا"؛ فهي مجاملة على حساب الدين تدخل في قوله -تعالى-: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9)، ومخالفة لقوله -تعالى-: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (هود:113)، ومخالفة لقوله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية:18).
- وأما حديث صلاة النصارى في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فمرسل لا يصح، ولو صح؛ فليس في الحديث أنهم جهروا بكفرهم أو تصليبهم في المسجد، وأنا شخصيًا قد رأيت طائفة منهم في صلاتهم وهم وقوف، لا يظهرون كلامًا ولا فعلاً؛ بخلاف ما يفعلونه أيام الأعياد والأفراح. وعلى أي حال فقصة صلاتهم في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- إن صحت؛ فهي واقعة عين محتملة؛ لما ذكروه؛ ولعدم ظهور ذلك منهم، ووقائع الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال بطل بها الاستدلال لما يبقى فيها من الإجمال.
- وقد نقل ابن القيم -رحمه الله- الإجماع على المنع من تهنئتهم بأعيادهم، وهم لم يذكروا حرفًا واحدًا عن أئمة العلم ممن سبقه حتى تكون المسألة خلافية، مع نصوص أهل العلم بالمنع من ذلك، وليس عندهم إلا كلام المعاصرين المحجوجين بالأدلة، وإجماع من سبقهم الذي لا يسوغ مخالفته.