الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 27 نوفمبر 2011 - 2 محرم 1433هـ

الغلول من أموال الفلول!

كتبه/ علاء بكر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد عانت مصر في ظل حكم مبارك من فساد سياسي لا مثيل له؛ إذ دأب أهل السلطة والمسئولية، ومِن خلفهم رجال الحزب الوطني على نهب كل ما تصل إليه أيديهم من ثروات البلاد وأموالها في ظل مباركة من رأس الفساد، وتراخٍ من أجهزة المراقبة، وتغاضٍ من الكُتاب والصحفيين ورجال الإعلام، وامتدت مسيرة النهب لسنين طويلة ضاعت فيها مئات المليارات، وترتب على ذلك تخريب الاقتصاد في مجالاته المختلفة: الزراعية، والصناعية، والتجارية، والاستثمار.. إلخ.

ولم يسلم من أطماع هؤلاء ما كانوا يخصصونه لدعم لفقراء من المواطنين والمحتاجين، وما كانوا يخصصونه لعلاج غير القادرين على نفقة الدولة، فذهب أكثر الدعم لغير مستحقيه، وجعلت الأولوية في العلاج على نفقة الدولة للمشاهير والمحاسيب والمعارف والزوجات، وانتهى المطاف بتسليم مقاليد البلاد لرجال الأعمال أصحاب المصالح الخاصة؛ ليتولوا الوزارات ويعتلوا الحزب الحاكم، فيسنوا من القوانين ويصدروا من القرارات ما يحقق مصالحهم ويحمي فسادهم جهارًا نهارًا!

وتعددت مظاهر الفساد من رشاوى وعمولات، وبيع لممتلكات الدولة من القطاع العام بأبخس الأثمان، وتزوير إرادة الشعب في الانتخابات، والإعداد لتوريث الحكم داخل العائلة الحاكمة للبلاد.

وتربح خلال هذه الفترات الكثيرون من الوزراء والمسئولين وقيادات الحزب الوطني ورجاله بغير وجه حق من أموال الشعب المنهوبة، وكوَّنوا ثروات وعقارات وأراضٍ وممتلكات داخل مصر وخارجها بما لا يخطر على بال الكثيرين مهما أساءوا فيهم الظن؛ إذ بلغت ثروات البعض منهم ما يقدر بعشرات المليارات من الجنيهات!

ولا غرابة في ذلك، فقد كانوا يبيعون أراضي الدولة باسم الخصخصة وتشجيع الاستثمار لأنفسهم من أنفسهم، أو لمن يريدون بأقل سعر يذكر؛ ليبيعوها بعد ذلك متى شاءوا بأعلى سعر يرجى، حتى باعوا لأنفسهم في بعض الفترات المتر من أراضي الدولة بجنيه واحد بينما كانوا يبيعون الكيلو الواحد من الطماطم لأفراد الشعب القادرين بعشر جنيهات!

وجاءت الثورة في "25 يناير" لتطيح برأس الفساد وأسرته وبعض كبار أعوانه، وسرعان ما توارى مَن كانوا ظاهرين في الأرض، ومعهم ما معهم مما نهبوه؛ حيث طالت الملاحقة للقليل منهم، وأفلت من العقاب والمحاسبة -حتى الآن- الكثيرون.

ولما طال الحال بالبلاد، وعشنا فراغًا سياسيًّا لشهور طويلة؛ عادت فلول هؤلاء تحاول في الخفاء توجيه دفة البلاد، وتدبير المخططات، وإثارة القلاقل؛ للعودة للظهور من جديد.

ومع قدوم الانتخابات المنتظرة لتكوين مجلس الشعب الجديد سعوا -الآن- جاهدين للوصول إلى المشاركة في العمل السياسي من جديد، مِن خلال فوزهم في هذه الانتخابات بمقاعد في مجلس الشعب المنتظر، أو دفع مَنْ يصلح أن يكون واجهة تحقق لهم ما يخططون له ويأمنون معه من أن يلاحقهم أحد في المستقبل القريب والبعيد، وهم لا يعجزهم أن ينفقوا الأموال الكثيرة لتحقيق أطماعهم وتنفيذ مخططاتهم، فمعهم ملايين تحت أيديهم لم يتعبوا في تحصيلها، ويأملون بإنفاقهم في هذا الاتجاه حفظ ما بقي في أيديهم من أموال، وتحقيق مكاسب جديدة بعد حين.

وهذه الفلول معلومة للجميع، وكان المأمول ممن يديرون شئون البلاد أن يحاسبوهم على ما اقترفوا، ويستعيدوا منهم من الأموال ما اغترفوا؛ لإعادتها لأصحابها الحقيقيين، الذين هم أحق بها وأهلها، وأن يمنعوهم ويعزلوهم عن أية مشاركة قادمة في أنشطة البلاد السياسية، ولا يسمح لهم بتبوإ المناصب، وشغل مواقع المسئولية في البلاد من جديد.

بل كان الأولى لهذه الفلول أن تتوب؛ خاصة وقد رأوا بأعينهم ثورة الناس عليهم، ومطالبتهم بحقوقهم منهم، وتضحية شباب الأمة بأرواحهم، وما يملكون؛ لوقف ما استمرؤوه من الفساد، وإعادة الصلاح والإصلاح في الأمة.

كان على هذه الفلول أن تبادر بالتوبة مما كانوا عليه، والمسارعة برد كل ما أدخلوه في حوزتهم من أموال يعلمون كل العلم أنهم أخذوها من قوت هذا الشعب بغير وجه حق؛ لأنها أموال عامة ملك للشعب، فتعاد إليه، ولكنهم أبوا إلا الاحتفاظ بما نهبوه، ثم السعي إلى المشاركة في الأنشطة المتاحة، وتدبير المخططات، وإثارة القلاقل؛ للإبقاء على ما يمكنهم الإبقاء عليه من صور الفساد في البلاد.

وللأسف فهذه الفلول تجد من أصحاب النفوس المريضة المعاونة، وتجد من بعض المتطلعين إلى أموالهم المساعدة! وتجد مِن بعض ممن ينتظر منهم إن عادوا لنشاطهم المشاركة! حتى رأينا منهم من يوضع في قائمة أحزاب مشاركة في هذه الانتخابات بعد حل الحزب الوطني الحاكم السابق، ومنعه من الممارسة السياسية، ونسي هؤلاء المتعاونون مع الفلول أن الأموال التي تنفق عليهم منهم من أموال الشعب المنهوبة، والتي كان الواجب ردها لا الانتفاع بها!

وغاب عنهم أنها خيانة هم طرف فيها، وأن الواجب رد هذه الأموال للدولة، فيصل إلى كل فرد من أفراد الشعب حقه فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فيزاد بها تقديم الدعم لغير القادرين.

ويقدم منها المنتظر من الزيادة في رواتب وحوافز من حرموا من أجورهم العادلة من حكوماتهم المتتابعة عبر عقود من السنين، أو تحسَّن بها الخدمات في قطاعات الخدمات المختلفة: الصحية، والتعليمية، والمواصلات، والاتصالات، وغيرها..

أما الأخذ منها والانتفاع بها قبل ذلك، وإعانة هذه الفلول في مطامعها  فهي خيانة مِن جنس السلب من الأموال العامة، وما أشبهها بحال من يغل من غنائم المسلمين، فكلاهما خيانة، فـ"الغلول: الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة قبل القسمة. يقال: غل في المغنم يغل غلولاً، فهو غال، وكل مَن خان في شيء فقد غل، وسميت: غلولاً؛ لأن الأيدي فيها مغلولة، أي: ممنوعة، مجعول فيها غل، وهو: الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه" "من تعليق د. محمد إبراهيم الحفناوي على تفسير الطبري ط. دار الحديث".

قال: "أجمع العلماء على أن للغال أن يرد ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخروج من ذنبه" "تفسير القرطبي جـ 4 هامش ص 268".

فليعلم كل من تسول له نفسه الغلول من أموال الفلول أن سعيه في هذا باطل لن ينفعه في دينه ودنياه، وأن جماهير الشعب التي تعرف هذه الفلول جيدًا؛ لأنها اكتوت بنارها، وعانت من فسادها لن تعطي لها الفرصة لتتمكن من جديد من رقاب العباد، وتستحوذ على أموالهم وخيراتهم.

إن ما قضت به المحكمة الإدارية العليا في شأن عدم القدرة من الناحية القانونية على منع هذه الفلول من الترشح لمجلس الشعب لا يعني براءة هذه الفلول من تهمة الفساد والإفساد، ولكنها قضت بذلك؛ لأن من وضع قوانين البلاد فاته أن يسن من القوانين من يمنع هذه الفلول وأشباهها من الاستمرار في إفساد الحياة السياسية بعد كل ما أفسدوه مِن قبل!

إن جماهير الشعب التي ساندت "ثورة شباب مصر"، ورأت بأعينها تضحياتها الغالية لتطهير البلاد من الفساد تعلم جيدًا أن مساندة هذه الفلول خيانة -وأي خيانة!-، وتوقن كل اليقين أن إعانتها لهذه الفلول للوصول إلى التحكم في مقدرات الأمة يعني ضياع ما قدمه شباب الثورة -وما زالوا يقدمونه-، ويعني بقاء الباب مفتوحًا ليدخل منه مَن يريد إعادتنا إلى "نظام مبارك" بعد إقصاء "مبارك".

إن شعب مصر يدرك جيدًا -وإن غفل مَن غفل من السائرين في ركب الفلول، ويغترون بما معهم من إمكانيات مادية، أن أموال هذه الفلول عليهم وعلى المنتفعين عليهم محرمة إن كانت سلبت من ثروات الأمة، كما أن إنفاقها لتحقيق أطماعهم الشخصية يزيدها حرمة على حرمتها.

ولله الأمر مِن قبل، ومن بعد.