كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرتُ في المقالة السابقة أن هناك أحوالاً مختلفة للحاكم حتى نفهم النصوص المتنوعة التي تحدثتْ عن الحاكم، فتارة تأمر بطاعته وبحرمة مخالفته، وتارة أخرى نؤمر بالصبر عليهم وعلى حيفهم، ولا ننازعهم الأمر، وثالثة تذكر أن الإنكار عليهم قربة، وأن مَن يفعل ذلك؛ فقد أدى ما عليه، بل إن أعظم الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر.
وخلصتُ مما ذكرتُ مِن الأدلة والتأمل فيها أن هناك أحوالاً للحاكم من التعامل مع الأمة، وبحسبها تكون معاملة الأمة معه.
وقد مر بنا صنفان مِن الحكام:
الصنف الأول: هو الحاكم العادل المخلص القوي الأمين، وهنا ينطبق عليه كل النصوص الآمرة بالطاعة والمحرمة للخروج.
والصنف الثاني: لا يزال في إطار غلبة المصلحة وإن كانت بعض قراراته خاطئة أو بها أثرة علينا، لكننا لا نزال نصبر وإن جلد ظهورنا، أو أخذ مِن مالنا، فلعل المنافع مِن الصبر أكبر مِن المفاسد في الخروج.. ودعنا نستكمل الحديث، فنقول:
ثالثًا: الحاكم يأمر بالمعصية ـ أحيانًا ـ، وأمرنا بعدم طاعتهم في المعصية ـ ولو كانت يسيرة ـ، مع الأمر بمناصحتهم والإنكار عليهم بحسب ما يقومون به مِن مخالفات، وهذا ـ بالطبع ـ يخضع لتقدير المصالح والمفاسد، ولضوابط إنكار المنكر مثل: إسرار النصح واللطف فيه، وألا يكون من المختلف فيه، ونلاحظ ـ هنا ـ أن الحاكم بدأ في الانحراف بدرجة ما، فنتعامل معها بحسبها؛ إذ قد تتطور إلى حال لا يرضى عنه الشرع، وعندئذ؛ يكون لنا موقف آخر.
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ؛ فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا. قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ النَّارِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا؛ مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه).
فليست الطاعة مطلقة، وإنما فيما ليس فيه معصية حتى ولو كان فيه بعض الحيف، أو يخالف المصلحة الشخصية، أو الرغبة الذاتية، فالنبي -عليه الصلاة والسلام-، يأمر بالطاعة، أي: في غير المعصية، كما جاء في الحديث الصحيح: (عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ؛ إِلا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) (رواه مسلم).
ومعنى هذا أنه يجب على الفرد المسلم: أن يطيع قيادته فيما أحبَّ وفيما كره، وإن كان ذلك ضدَّ رغبته، وضدَّ مصلحته الشخصية، ما دام ذلك أمرًا بالمعروف، مثال ذلك: أن يُطالب بالزكاة، أو بحقٍّ بعد الزكاة.. أو حتى إذا طُولب بما فيه إزهاق روحه، كأن يجنَّد، أو يُطلب منه التقدُّم إلى ساحة القتال؛ للدفاع عن دينه وعن أرضه الإسلامية.. فلا بد أن يطيع ـ أحبَّ ذلك أو كره ـ ما لم يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية؛ فلا سمع ولا طاعة، هكذا يُعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمة أن تُطيع في المعروف.
ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني)، فطاعة الخالق مقدمة على كل أحد، وكذلك طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مقدمة، ولهذا فسر العلماء قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59)، فقالوا: إن أولي الأمر أي: الذين لهم ولاية، ولهم أمر على مَن تحتهم، ويطيعهم أتباعهم، ولكن طاعتهم مسبوقة بطاعة الله وبطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وهنا ندرك أن مقاومة الظلم وجور السلاطين بقول الحق، وتحمل ما يلحق به مِن أذى هو مِن أعظم الجهاد في سبيل الله -تعالى-، قال -صلى الله عليه وسلم-: (سَيِّد الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جائرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ؛ فَقَتَلَهُ) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).
ومِن ذلك: الجهاد باليد إذا لم يؤدِ إلى مفاسد، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ؛ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) (رواه مسلم).
الإنكار باليد قد يكون بإزالة المنكر حين وقوعه، ولا يشترط فيه القتال.