الدعوة السلفية
كتبه: محمود عبد الحميد العسقلاني
تعريف الدعوة: هي المحاولة القولية أو الفعلية لجمع الناس واستمالتهم إلى مذهب أو ملة، وقد تكون الدعوة إلى الحق وقد تكون إلى الباطل.
الدعوة إلى الحق:
قوله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المؤمنون:73).
وقوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)
وقوله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)
وقوله -تعالى-: (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً)(الكهف: من الآية57)
وقوله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125)
وقوله -صلى الله عليه وسلم‑: (ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه).
وقوله -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ )(الحديد: من الآية8)
الدعوة إلى الباطل:
في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)(فاطر: من الآية6).
وقوله -تعالى-: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)(لقمان: من الآية21).
وقوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (القصص:41)
وقوله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)(البقرة: من الآية221)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها).
وجمع الله ذكر الدعوتين في موضع واحد:
قال -تعالى-: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لأكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) (غافر:42‑41)
وقوله -تعالى-: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية221)
وجاء في السنة كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئًا)
أما الدعوة في الإصلاح: قال الشيخ صالح بن حميد: يمكن بالنظر والتأمل تعريف الدعوة بأنها قيام المسلم ذي الأهلية في العلم والدين بتبصير الناس بأمور دينهم وحثهم على الخير، وإنقاذهم من شر واقع، وتحذيرهم من سوء متوقع على قدر الطاقة ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل.
وقال بعضهم: الدعوة: تعريف الناس بربهم بأسمائه وصفاته وكيفية الوصول إليه -سبحانه- ومالهم وما عليهم إذا رجعوا إليه. أو هي حداء بالناس لمعرفة الله والإيمان به وتوحيده ربًا خالقًا ومالكًا وإلهًا معبودًا وحاكمًا فردًا فلا منازع له في ربوبيته ولا شريك له في المحبة ولا مضاد له في حاكميته واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطاعته في كل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
معنى كلمة السلفية: هي من كلمة سلف يُسلف بالضم سلفًا بفتحتين أي مضى والقوم السُّلاَّف المتقدمون. وسلف الرجل آباؤه المتقدمون.
المعنى الاصطلاحي: المراد بالمذهب السلفي ما كان عليه الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأتباعهم وأئمة الدين ممن شُهد له بالإمامة وعُرف عظم شأنه في الدين، وتلقي الناس كلامهم خلفًا عن سلف كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري، والليث بن سعد وابن المبارك، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وسائر أصحاب السنن دون من رُمي ببدعة أو اشْتُهِرَ بلقب غير مرضي مثل الخوارج والروافض والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة فكل من التزم بعقائد وفقه هؤلاء الأئمة كان منسوبًا إليهم، وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان وكل من خالفهم فليس منهم وإن عاش بين أظهرهم وجمع بينهم نفس الزمان والمكان.
فيكون المراد بالسلف الصحابة -رضي الله عنهم- وقد تُوسِّعَ في هذا المصطلح فشمل من تبعهم بإحسان من التابعين وتابعيهم من أئمة الدين ممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سواء كانوا من القرون الخيرية أو ممن جاء بعدهم.
قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100).
فالسلفية إذًا هي المدرسة التي حافظت على العقيدة والمنهج الإسلامي بعد ظهور الفرق المختلفة طبقًا لفهم الأوائل من الصحابة -رضي الله عنهم-.
والسلفية في مدلولها اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والذي كانت سيرته العطرة هي المنهج الذي يتطلع إليه سلفنا الصالح وحولوه إلى منهج حياة وهذا المنهج نزل به الأمين جبريل على صدر رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من عند الله -تبارك وتعالى- كما قال -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:4‑3)
وقوله -تعالى-: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)(الأنعام:50)
فالسلفية إذًا ليست من تأسيس البشر، إنما هي الإسلام نفسه بالفهم الصحيح علمًا وعملاً وهي تمسك بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لا تخرج عما كانوا عليه.
قال د. مصطفى حلمي في مقدمة كتابه (قواعد المنهج السلفي): وإذا كان المسلمون يلتمسون اليوم طريقًا للنهوض؛ فليس لهم من سبيل إلا وحدة جماعتهم، ووحدة الجماعة ليس لها سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة، وهذه خلاصة الاتجاه السلفي عودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فالدعوة السلفية إذًا هي محاولة قولية وفعلية لجمع الناس واستمالتهم إلى الحق والصراط المستقيم، أي إلى دين النبي -صلى الله عليه وسلم- وشرعه الذي جاء به بفهم السلف الصالح أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم أعلم الناس بكتاب الله وبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالقرآن نزل بلغتهم التي يجيدونها ونزل بين أظهرهم وهم يعلمون متى نزل وفيما نزل مع فهمهم لمعانيه ومقاصده وما خفي عليهم من شيء سألوا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبيَّن لهم فالدعوة إلى هذا الدين؛ وبهذا الفهم دعوة إلى الحق وإلى صراط مستقيم وإلى دين القيمة.
الأصول التي قامت عليها الدعوة السلفية
قامت الدعوة السلفية على أصلين عظيمين هما دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء من قبل رسولنا -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فهي أصول معصومة لأن أصل الدين الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند الله -تعالى-.
الأصل الأول
هو توحيد الله -سبحانه وتعالى- توحيدًا صافيًا من كل شرك
وهو أنواع: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الألوهية، وتوحيد في الأسماء والصفات.
فتوحيد الربوبية:
هو الإيمان بأفعال الرب -سبحانه وتعالى- من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والملك والتدبير والحكم...
وأما توحيد الألوهية:
فهو توحيد الله بأفعال العباد وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعدم صرف شيء من العبادات لغير الله.
وأما توحيد الأسماء والصفات:
فهو وصف الله بما وصف نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله في سنته من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل، وقطع الطمع عن إدارك كيفية هذه الصفات مع معرفة معانيها والتفويض في الكيف وهذا في الحقيقة هو معنى لا إله إلا الله.
فلابد من الإتيان بمقتضيات هذه الكلمة مع تحقيق أركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والإتيان بشروط هذه الكلمة من العلم بمعناها واليقين بما تقتضيه هذه الكلمة والتصديق بها وبمقتضياتها والإخلاص لله عز وجل والقبول والانقياد، والاستسلام والحب والخوف والرغبة والرهبة والإنابة والخشوع والخشية والتوكل والصبر وكل عبادات القلب التي أصلها شرط في صحة الإيمان، وهذه هي دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوة الأنبياء من قبله.
قال -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )(النحل: من الآية36)
وقوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وقوله -تعالى-: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45)
فالتوحيد هو الأصل الأول وأصل الأصول عند السلفيين، وهو المقدم عندهم لماذا كان التوحيد أصل الأصول؟
1-التوحيد هو حق الله على العباد لقوله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)
2-التوحيد لأجله خلق الله الإنسان ومن قبله الجان (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56) يعني يوحدون
3-التوحيد هو دعوة الرسل والأنبياء (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25).
4-التوحيد هو الدين الذي ارتضاه الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)(آل عمران: من الآية19).
والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك قال -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
5-التوحيد مكفر للذنوب والخطايا وذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن رب العزة -تبارك وتعالى-: (يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا أبدلتك بقرابها مغفرة)، بل لا يدخل الجنة إلا موحد.
6-التوحيد أعظم أسباب دخول الجنة قال -صلى الله عليه وسلم-: (من مات وهو لا يشرك بالله دخل الجنة).
7-التوحيد نجاة من النار، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
8-التوحيد دعوة الرسل وأتباعهم من الدعاة والعلماء قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: (إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة...الحديث)، وهذا يدل على أن التوحيد أهم قضية لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر معاذًا بالبدء بها.
9-التوحيد يثقل الميزان يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق فينشر له تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر ألك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقول: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة).
10-التوحيد سلامة للنفس من التمزق والصراع، قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً)(الزمر: من الآية29) وهذا مثل لمن يعبد آلهة متعددة ومن يعبد إلهًا واحدًا.
(11)التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، وقال -تعالى-: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(الروم: من الآية30)
(12)التوحيد هو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالتزامه (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5)
التوحيد يجعل لأهله الأمن والاهتداء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82)
التوحيد أكبر دعامة للرغبة في الطاعة لأن الموحد يعمل لله -سبحانه وتعالى- ولذلك فهو يعمل سرًا وعلانية أما غير الموحد كالمرائي مثلاً فإنه يتصدق ويصلى، إذا كان عنده من يراه فقط ولهذا قال بعض السلف: (إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
(13)الشرك أقبح القبح لكونه تنقص لرب العالمين وصرف خالص حق الله لغيره ومساواة غيره به، قال -تعالى-: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(الأنعام: من الآية1) أي يساوون غير الله بالله، وقال -تعالى-: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)(النساء: من الآية48)
(14)الشرك أظلم الظلم قال -تعالى-: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13)
(15)الشرك لا يغفره الله لمن لقيه به (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48)
(16)الشرك محبط للعمل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(الزمر: من الآية65) وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأنعام: من الآية88)
(17)الشرك يوجب الخلود في النار قال -تعالى-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72)
(18)الشرك خسران للدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:11‑13).
الأصل الثاني
الإتباع
الأصل الثاني وهو تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي تعني طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يُعبد الله إلا بما شرع على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع محبته وتوقيره واتباعه والسير على دربه واقتفاء أثره -صلى الله عليه وسلم-، أو إضافية مكفرة أو مفسقة في العقائد أو في العبادات فكل هذه البدع مرفوضة وكلها ضلالات ليس فيها حسن وقبيح بل كلها قبيحة.
وكذلك العمل بالحديث المقبول سواء كان حسنًا أو صحيحًا ورفض الأحاديث الضعيفة والموضوعة وعدم العمل بها سواء كانت في العقائد أو الأحكام أو فضائل الأعمال لأنها لم تثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله تقتضي أمورًا:
أولاً: الإيمان به -صلى الله عليه وسلم-:
لقوله -تعالى-: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)(الأعراف: من الآية158) وقوله -تعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح:8‑9).
ومن الإيمان به أن نؤمن أنه رسول من رب العالمين ليس عبقريًا وفيلسوفًا أو مصلحًا اجتماعيًا ولا ساحرًا ولا شاعرًا كما قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(الفتح: من الآية29)
وقوله -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ)(الأحزاب: من الآية40) وقوله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)(آل عمران: من الآية144)
ومن الإيمان به أن تؤمن أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأن دعوى النبوة بعده كفر وضلال وهوى، قال -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(الأحزاب: من الآية40)
في حديث الشفاعة: (فيأتوني فيقولون: يا محمد: أنت رسول الله وخاتم النبيين وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا من النبيين موضع تلك اللبنة).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت في الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، أرسلت على الخلق كافة، وختم بي النبيون).
ومن الإيمان به أن نؤمن أنه رسول الله إلى الناس كافة العرب والعجم والأبيض والأسود والأحمر والأصفر، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)(سـبأ: من الآية28) وقوله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة).
ومن الإيمان به أن نؤمن أنه مرسل إلى الجن أيضًا، لقوله -تعالى-: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً) (الجـن:1‑2).
ثانيًا: تصديقه -صلى الله عليه وسلم-:
في كل ما جاء به من كتاب أو سنة دون تفريق بين ما جاء به فإنه كله من عند الله قال -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3‑4).
وقال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7)
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)(محمد: من الآية2)
وقال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: من الآية44)
وقال -تعالى-: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)(الأحزاب: من الآية34)
فلا يجوز التفريق بين آي الكتاب أو بين حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة: من الآية85)
ثالثًا: طاعة النبي طاعة مطلقة:
أي أنه يطاع فلا يعصى -صلى الله عليه وسلم- كما أمر الله -تبارك وتعالى- قال -تعالى-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) فأفرد الله نفسه بطاعة، وأفرد نبيه بطاعة، وجعل طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعتهم لله ورسوله.
قال -تعالى-: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ )(النساء: من الآية80)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله).
وبين الله -تعالى- أن الهداية في طاعته -صلى الله عليه وسلم- قال -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)(النور: من الآية54)
وقد أمر الله بطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحذر من مخالفة أمره وتوعد على ذلك بالعذاب، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)(النساء: من الآية64)
وقال -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
وقال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63)
وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (الفرقان:27)
وقال -تعالى-: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (الأحزاب:66)
رابعًا: اتباعه -صلى الله عليه وسلم-:
باقتفاء أثره والسير على دربه والاستنان بسنته -صلى الله عليه وسلم- والتعبد بما جاء به -صلى الله عليه وسلم- بغير زيادة محدثة مخترعة وإنما بالاقتصار على ما جاء به -صلى الله عليه وسلم-.
قال -تعالى-: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(لأعراف: من الآية158)
وقال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(آل عمران: من الآية31)
وقال -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)
وقال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)(النساء: من الآية59)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبدًا حبشيًا؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة).
وقال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)(الأحزاب: من الآية21)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي مردود عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقال ابن عمر -رضي الله عنه-: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة).
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، وقال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة).
وقال عمر بن عبد العزيز: (أوصيكم بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترك ما أحدث المحدثون بعده).
خامسًا: محبته -صلى الله عليه وسلم-:
محبته -صلى الله عليه وسلم- أعظم من محبتنا للآباء والأبناء والأموال والتجارة والنفس، قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
ومحبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي إيثار محابه على محابنا وأهوائنا، فنحب ما يحب ونبغض ما يبغض مع طاعته واتباعه والإيمان به وتصديقه وتوقيره وتبجيله ومحبة ما جاء به من القرآن والسنة ومحبة أصحابه وآل بيته -صلى الله عليه وسلم-.
قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ )(الفتح: من الآية29)
وقال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(التوبة: من الآية100)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أصحابي أصحابي لا تسبوا أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الله الله في أهل بيتي).
سادسًا: توقير النبي -صلى الله عليه وسلم- بغير غلو فيه:
قال -تعالى-: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفتح:9)
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)(الحجرات: من الآية1)
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2)
وقال -تعالى-: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)(النور: من الآية63)
قال عروة بن مسعود يوم الحديبية عندما جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفاوضه ثم عاد إلى قومه فقال لهم: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت أحدًا يعظم أحدًا كتعظيم أصحاب محمد محمدًا فوالله ما تنخم نخامة إلا سقطت في يد أحدهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له.
سابعًا: تعظيم ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- من كتاب أو سنة:
قال ابن عباس لعروة بن الزبير لما ناظره في مسألة المتعة في الحج، فقال ابن عباس: (تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحج) - أي أمر أصحابه بالمتعة - فقال عروة: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن ذلك، فقال ابن عباس: (يوشك أن يمطر الله عليكم حجارة من السماء أقول لك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقول: قال أبو بكر وقال عمر).
وقال مالك -رحمه الله-: (كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر) أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، وقال: (إذا وجدتم قولي يخالف قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاضربوا بقولي عرض الحائط).
وقال الشافعي لإسحاق لما ناظره في بيع بيوت مكة: (أنت الذي يقولون عليك فقيه خراسان، أقول لك: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: قال فلان وقال فلان).
ولقي رجل الشافعي فقال له: يا أبا عبد الله ما تقول في مسألة كذا؟ فذكر له الحديث، فقال: يا أبا عبد الله أتقول بهذا الحديث؟ فقال: سبحان الله أرأيتني خارجًا من كنيسة، أرأيتني أشد على وسطي زنارًا حتى لا آخذ بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! نعم آخذ به على العين والرأس.
وقال ابن القيم: (وكان أحمد إذا وجد نصًا أفتى بموجبه ولا يلتفت على ما خالفه أو من خالفه كائنًا من كان، وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت وقال: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، يرى أنه يجب الإنصات عند قراءة حديثه -صلى الله عليه وسلم- كما يجب ذلك عند سماع قوله -صلى الله عليه وسلم-.
وحدث عبد الله بن مسعود مرة فقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلاه كرب وتحدر العرق من جبينه -رضي الله عنه- ثم قال: هو كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أزيد مما قال أو أقل مما قال.
ومر مالك بن أنس على أبي حازم وهو يحدث فجازه ولم يقف عنده وعلل لذلك بقوله: إني لم أر موضعًا أجلس فيه فكرهت أن آخذ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا قائم. وكان -رحمه الله- إذا أراد أن يحدث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه ثم خرج فحدث.
ثامنًا: النصح له -صلى الله عليه وسلم-:
قال -تعالى-: (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(التوبة: من الآية91)
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله).
والنصح له -صلى الله عليه وسلم- هو الإيمان به وتصديقه وطاعته ومؤازرته ونصرته وحمايته حيًا وميتًا، وإحياء سنته، والتخلق بأخلاقه، ومحبته، وموالاته، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وإبلاغ رسالته، والدعوة إليها ونشرها والذب عنها، وإقامة شريعته، وإعزاز أهل ملته، وإذلال الكافرين بدينه، والكائدين لأمتع وملته.
تاسعًا: نصرته -صلى الله عليه وسلم- حيًا ونصرة دينه وشريعته وسنته بعد مماته:
قال -تعالى-: (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: من الآية40).
وقال -تعالى-: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(لأعراف: من الآية157).
وقال -تعالى-: (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(آل عمران: من الآية81).
عاشرًا: الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-:
قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا)
والصلاة عليه واجبة في التشهد، وتتأكد الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- قبل الدعاء ويوم الجمعة وليلتها وعند سماع اسمه وعند دخول المسجد والخروج منه وبعد التكبيرة الثانية في صلاة الجنازة.
السلفية دعوة ربانية:
تتميز الدعوة السلفية بأنها دعوة ربانية؛ لأنها تعتمد على أصلين أساسيين هما: التوحيد والاتباع، وهذا ما يجعلها دعوة ربانية في الغاية والوجهة، وربانية في المنهج والمصدر.
فالأمر الأول - هو ربانية الغاية والوجهة
فأما ربانية الغاية والوجهة؛ فإن الغاية والهدف هو حسن الصلة بالله -تبارك وتعالى-، والحصول على مرضاته، وهذه هي غاية الإنسان ووجهته ومنتهى أمله وسعيه فإن الهدف الأكبر هو تحقيق مرضاة الله -تبارك وتعالى-، وحسن مثوبته فهو هدف الأهداف وغاية الغايات، وإن كان هناك أهداف أخرى إلا أنها تابعة لهذا الهدف الأكبر.
ولذلك أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أنه يعلنها للناس واضحة جلية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)(الأنعام161-164).
فالقرآن يقرر هذه الحقيقة بوضوح حين يذكر الغاية من خلق الجن والإنس، فيقول -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات 56-58).
بل بين القرآن أن خلق العالم كله لم تكن الغاية منه إلا ليعرف الناس ربهم القادر على كل شيء العليم بكل شيء وهذه المعرفة هي باب كل هدى ومفتاح كل خير.
قال -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (الطلاق:12).
فالغاية إذًا من وجود الإنسان أن يعبد الله؛ فينبغي أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده بأن يجعل الله غايته، فلا يعبد إلا الله ولا يشرك به شيئًا، وهذا معنى قول العبد في الصلاة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5). ومن ثمرات ربانية الغاية والوجهة فوائد في النفس والحياة يجني الإنسان ثمارها في هذه الدنيا فضلاً عن ثمراتها في الآخرة وهي ثمار في غاية الأهمية، فمن ثمارها:
الثمرة الأولى: معرفة الغاية من وجود الإنسان:
أن يعرف الإنسان لوجوده غاية ويعرف لسيرته وجهة ويعرف لحياته رسالة وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، فلا يعيش في عماية ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره واستبانةً لمصيره بعد أن عرف الله وأقرَّ له بالوحدانية فعرف من أين جاء ولم جاء، وإلى من فراره، وأين قراره، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء77-82).
الثمرة الثانية: الاهتداء إلى الفطرة:
فمن فوائد الربانية أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله تعالى ولا يعوضها بشيء غيره (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(الروم: من الآية30)، واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبًا رخيصًا بل هو كسب كبير وغنم عظيم، فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه ومع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني الوجهة يسبح بحمد ربه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(الإسراء: من الآية44)
قال ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه وقدره ومعانقة الصبر على ذلك إلى يوم لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه وداوم ذكره وصدق الإخلاص له ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد هذه الفاقة أبدًا) اهـ.
وهذا ليس كلام عالم فحسب، كلام ذائق مجرب يقول ما خبره وأحس به في نفسه وما رآه ولاحظه في الناس من حوله.
إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء على الله، والإيمان به والالتجاء إليه، وهذه الفطرة تذبل ولكنها لا تموت، وتكمن ولكنها لا تزول، فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها ما لا قبل له به ولا يد له ولا للناس في دفعه أو رفعه، فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة التي نشأت من تراكم صدأ الشبهات أو غبار الشهوات الذي انحرف ودنس هذه الفطرة فسار بها إلى اتباع الهوى والتقليد الجاهل للآباء والأجداد والطاعة العمياء للسادة والكبراء، والعجب والغرور الذي يظن معه الإنسان أنه يستطيع أن يقوم وحده ويستغني عن الله؛ فعند ذلك تبرز الفطرة العميقة الكامنة وينطلق الصوت المخنوق المحبوس داعيًا ربه منيبًا إليه.
قال -تعالى-: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ)(الإسراء: من الآية67)
وقال -تعالى-: (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (لقمان:32).
وقال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس:22).
الثمرة الثالثة: الأمن والاهتداء وسلامة النفس من التمزق والصراع:
فمن ثمرات الربانية في القصد حصول الأمن والاهتداء، قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82)
فالمؤمن لا يخاف إلا الله وهو آمن من كل ما سواه، وإذا خاف شيئًا لجأ إلى الله فدافع الله عنه، وهو مهتد في الأقوال والأعمال، ويوم القيامة يؤمنه الله من فزع يوم القيامة ويهديه إلى طريق الجنة ويعرفه منازله فيها، وأما الكفار فلا أمن له في الدنيا ولا في الآخرة قال -تعالى-: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) (آل عمران:151)، فهم مهما كثرت جنودهم واشتدت حراساتهم في رعب وخوف وإثم، إذ القلب لا يطمئن إلا مع التوحيد فمن لم يوحد الله أخافه الله من كل شيء، ويوم القيامة هم في فزع عظيم، وهم في الدنيا لا يهتدون إلى صدق ولا عدل، وهم في الآخرة أضل الناس عن طريق الجنة، بل لا يهتدون إلا إلى صراط الجحيم نعوذ بالله من ذلك.
وهذه الربانية في القصد تؤمِّن النفس البشرية من التمزق والصراع الداخلي والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، لأن الإسلام جعل غاية الإنسان غاية واحدة وهي إرضاء الله -تعالى- وجعل همومه همًا واحدًا وهو العمل على ما يرضيه -سبحانه-.
ولا يريح النفس شيء مثل وحدة الغاية والوجهة في الحياة فتعرف من أين تبدأ وإلى أين تسير ومع من تسير، ولا يشقى الإنسان شيء مثل تناقض غاياته وتباين اتجاهاته وتضارب نزاعاته.
فعقيدة التوحيد قد منحت المسلم يقينًا بأن لا رب إلا الله يخاف ويرجى، ولا إله إلا الله يتقى سخطه، ويلتمس رضاه، وبهذا أخرج المسلم كل الأرباب الزائفة من حياته وحطم كل الأصنام المادية والمعنوية من قلبه ورضي الله وحده ربًا، عليه يتوكل وإليه ينيب، وفي فضله يطمع، ومن قوته يستمد، وله يتودد وإليه يحتكم وبه يعتصم (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(آل عمران: من الآية101)، فأين هذا من المشرك بالله الذي تعددت أربابه، وتضاربت وجهاته، وقد مثله القرآن الكريم بعبد له أكثر من سيد وهم شركاء متشاكسون غير متوافقين كل يأمره بضد ما أمره به الآخر ويريد منه غير ما يريد الآخر، فهمه متفرق وقلبه مشتت.
قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً )(الزمر: من الآية29).
وقال يوسف -عليه السلام- لرفيقيه في سجن مصر وكانا يعبدان مع الله آلهة أخرى (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف39‑40)
الأمر الثاني ربانية المنهج والمصدر
ومن آثار الأصل الثاني وهو الإتباع ربانية المنهج وهو أن يكون المنهج من عند الله -تعالى- فهم لا يصدرون عن شيء إلا عما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو المنهج الرباني لقول الله -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم3‑4)
فكل ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بالدين إنما هو بوحي من الله -تعالى- وهذا المنهج يقوم على قواعد أساسية.
أولاً: الاستدلال بالكتاب والسنة:
فالكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه، وهو معجز إعجازًا أفحم الفصحاء وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، ميسر الفهم عن الله ما أمر به وما نهى عنه وهو مع كونه من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب مفهوم معقول لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا. قال -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17)
وقال -تعالى-: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً) (مريم:97) وقال -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3) فهو كونه معجزًا غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقل معانيه (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (صّ:29) فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبر والفهم والقرآن فيه بيان كل شيء قال -تعالى-: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام:38) وقال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(النحل: من الآية89) وقال -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الإسراء: من الآية82) وقال -تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) وقال -تعالى-: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ )(يونس: من الآية57) دلت هذه الآيات على أنه هدى وشفاء لما في الصدور ولا يكون شفاء لجميع ما في الصدور إلا وفيه تبيان كل شيء.
وقد أمرنا الله -تبارك وتعالى- بالتزام كتابه والعمل بما فيه فقال -تعالى-: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:3) وقال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)(النساء: من الآية59)
وقد ذم الله وعاب من أعرض عن كتابه -سبحانه وتعالى- فقال -عز وجل-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (آل عمران:23)
وقال -تعالى-: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)
وبين الله -سبحانه وتعالى- أن الهداية في كتابه العزيز (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة15‑16)
وبين الله تعالى أن موقف المؤمنين مع كتاب الله تعالى هو الاستجابة والسمع والطاعة كما قال -تعالى-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51)
وبين الله -تعالى- أن موقف الكفار والمنافقين الإعراض عن كتاب الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (آل عمران:23)
وقال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:61)
وأما السنة:
السنة أصل في الاستنباط قائم بذاته ثبت وجوب الأخذ بها في النصوص الكثيرة الواردة في القرآن والتي تدل بصورة قاطعة على لزوم اتباع السنة والالتزام بها واعتبارها مصدرًا للتشريع واستفادة الأحكام منها.
من ذلك أمر الله عز وجل بالأخذ بما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7)،
ومنها التصريح بأنه لا إيمان لمن لم يحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
ومنها التحذير من مخالفة أمره -صلى الله عليه وسلم- (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63)
ومنها الأمر بطاعته طاعة مطلقة (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:32)
ومنها بيان أن الهداية في طاعته (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(النور: من الآية54)
ومنها بيان أن السنة وحي من الله -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: من الآية44)
وقوله -تعالى-: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)(الأحزاب: من الآية34)
وقوله -تعالى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله). صحيح.
ومنها تعليق الفوز على طاعته -صلى الله عليه وسلم- (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(الأحزاب: من الآية71)
ومنه جعل طاعة الرسول طاعة لله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)(النساء: من الآية80)
ومنها الوعيد بالعذاب على مخالفته -صلى الله عليه وسلم- (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا) (الأحزاب:66)
والسنة مع الكتاب إما مساوية له لا تزيد عنه سواء أكانت قولية أم فعلية، كأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصيام رمضان وإتمام الحج وكل ذلك موافق لقوله -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)(البقرة: من الآية183)، (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)(البقرة: من الآية196) وهذا يكون تأكيدًا لدلالة القرآن، وهذا يسمى بيان التقرير.
أو تكون السنة مفصلة لمجمل القرآن، ومثاله أن الله أمر بالصلاة والصوم والزكاة والحج، ولكن لم يبين عدد الركعات ولا كيفياتها ولا أوقاتها ولا كل شروطها، فبينت السنة كل ذلك وهذا يسمى بيان التفسير.
وإما أن تكون مخصصة للقرآن مثل قوله -تعالى-: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)(النساء: من الآية24) أخرجت منه السنة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.
ومنها أن تأتي السنة بشيء ليس له حكم في القرآن، بل هو حكم جديد استقلت به السنة وهو حجه بدلالة صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبدلالة قوله -تعالى-: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(النساء: من الآية113) وقوله -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
والسنة قاضية على القرآن لأن القرآن يكون محتملاً لأمرين فأكثر فتأتي السنة بتعيين أحدهما.
ثانيًا: الاستدلال بالإجماع:
وهو إجماع الأئمة المجتهدين في عصر من العصور بعد الرسول على حكم شرعي قال -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم).
ثالثًا: العمل بالقياس الجلي الذي لا يتعارض مع نص أو إجماع:
وهو أن يستدل بعلة الحكم المذكور في النص على حكم غير مذكور في النص.
وقد اتفق علماء الأمة على أن القياس يثير ظنا غالبًا وأنه يعمل به في الأمور الشرعية بشروط:
أن يكون حكم الأصل معلومًا بنقل مقبول أو إجماع.
أن تعرف علة الحكم بطريقة معتبرة كالنص على العلة أو الإجماع على أن هذه هي العلة أو بالاستنباط الصحيح.
أن يعلم وجود تلك العلة في الفرع.
أن لا يمنع من الإلحاق به مانع فلا يقاس على خصائص النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً.
وكذلك اتباع المنهج الرباني اقتضى تقديم النصوص الواردة في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العقل والذوق والوجد والعاطفة.
فكان السلف يقدمون الشرع على العقل ويرون أن العقل يوافق الشرع ولا يخالفه، وأن الشرع لا يأتي بما يحال في العقل، ولكن قد يأتي بما يحار فيه العقل وأنه لا تعارض بين نقل صحيح ونظر عقلي سليم، والنقل الصحيح حجة، والنظر العقلي تابع للدليل السمعي ولا يتعارض معه أبدًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ولهذا لا يوجد في كلام أحد السلف أنه عارض القرآن بعقل أو رأي أو قياس، ولا بذوق ووجد ومكاشفة، ولا قال قط: قد تعارض في هذا العقل والنقل فضلاً عن أن يقول: يجب تقديم العقل. والنقل: يعني القرآن والحديث وأقوال الصحابة والتابعين.
وقال شارح الطحاوية: وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة إنما يتلقاه من قول فلان.
وقال أيضًا: وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص أو عارض النص بالمعقول فقد ضاهى إبليس حيث لم يسلم لأمر ربه فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(الأعراف: من الآية12)
وكذلك اتباع المنهج الرباني اقتضى رفض التأويل الكلامي.
والمقصود بالتأويل الكلامي: التأويل المذموم وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر إلى الفهم عند إطلاق اللفظ بغير دليل يدل عليه لتوافق المذاهب الباطلة أو العقل السقيم.
وهذا يعني الأخذ بظاهر النصوص وما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحتف بها من القرائن، وهو إجراء للنصوص على ظاهرها بدون تحريف ولا فرق في هذا بين نصوص الصفات وغيرها، بل قد يكون وجوب التزام الظاهر في نصوص الصفات أولى وأظهر، لأن مدلولها توقيفي محض لا مجال للعقول في تفاصيله ،وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله -عزَّ وجل- من غير تحريف، وأن ظاهرها لا يقتضي تمثيل الخالق بالمخلوق.
فالله -سبحَانه وتعالى- أنزل القرآن بلسان عربي من أجل فهمه، وأمرنا باتباعه، فيجب علينا أن نجريه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية.
قال -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء:192-195).
وقال -تعالى-: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف:3).
ويقوم هذا المنهج الرباني على فهم الكتاب والسنة بفهم أعلم الناس بالكتاب والسنة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تزكية معتقد الصحابة وأصول إيمانهم ظاهرة الدلالة.
قال الله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)(البقرة: من الآية137)
وقوله -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(آل عمران: من الآية110)
وقال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة: من الآية143)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
تقتضي الربانية في المنهج والمصدر أن لا يكون هناك معصوم إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين، والكتب المنزلة عليهم، وعلى ذلك فليس هناك معصوم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرسالة التي جاء بها -صلىَّ الله عليه وسلم- وهذا يقتضي أن ندرك أن العالم معرض للخطأ.
وأنه لا يجوز لمن استبانت له سنة رسول الله -صلىَّ الله عليه وسلم- أن يدعها لقول أحد من الناس وهذا إجماع، ويقتضي أن يكون العباد غير متعبدين بقول أحد من البشر إلا بقوله -صلىَّ الله عليه وسلم- ولذلك فهم لا يسألون عن أحد من البشر في قبورهم إلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل أجابوه أم كذبوه، ولكن ينبغي مع ذلك تقدير العلماء ومعرفة قدرهم، وأن نحمل أقوال علمائنا وآراءهم على المحمل الحسن، وألا نسيء الظن بهم، وإن خالفناهم ولم نأخذ بقولهم، فلا يعني عدم الأخذ بقول عالم -لأن الدليل يخالف قوله- أن نستبيح عرضه ونأكل لحمه، فينبغي أن نبقي حرمة العلماء مصونة من الطعن، وعلينا أن نلتزم منهج السلف الصالح في بيان الحق مع التماس العذر للمخالفين، وهذا يقتضي احتمال الاختلاف السائغ المعتبر الذي لا يتعارض مع نص من الكتاب والسنة أو إجماع قديم أو قياس جلي، وعدم احتمال الخلاف غير السائغ الذي يصطدم مع النصوص أو الإجماع أو القياس الجلي، وهذا يقتضي أيضًا محاربة هذا النوع من الخلاف، والرد على الأقوال الفاسدة والباطلة ونشر السنة ومحاربة البدع والضلالات.
ونحن إذا كنا نقدر علماء الأمة، ونعرف منزلتهم، ونشكر لهم جهودهم، ونثني عليهم بما هم أهل له، إلا أننا لا نقدس الأشخاص، ولا نتغاضى عن الأخطاء ولا نسكت عن الحق، ونستحضر في هذا المقام قول مالك بن أنس -رَحمه الله-: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وقول ابن القيم: وكان أحمد إذا وجد نصًا أفتى بموجبه ولا يلتفت إلى ما خالفه من قولٍ كائنًا من كان قائله، وقول الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، والمجتهد مأجور على كل حال إما بأجر أو بأجرين، قال -صلىَّ الله عليه وسلم-: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). فهذا الحديث يدل على أن المجتهد مأجور على كل حال، لكنه ليس مصيبًا في كل الأحوال.
من السمات التي اكتسبتها الدعوة بكونها ربانية:
1- العموم:
الدعوة لما كانت ربانية فإنها اكتسبت هذه السمة التي تميز بها المنهج الإسلامي الذي جاء به رسول الله -صلىَّ الله عليه وسلم-، وهو منهج لجميع البشر على اختلاف أشكالهم وأجناسهم وألوانهم ولغاتهم وعاداتهم وأعرافهم، وليست خاصة بقوم دون قوم أو بشعب دون شعب أو أمة دون أمة، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود)، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)(سـبأ: من الآية28)، كما أنه منهج لكل العصور من أول بعثة رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل النسخ ولا الإلغاء ولا التغيير ولا التعديل ولا الإيقاف ولا التعطيل لظرف من الظروف.
قال الله -تعالى-: (لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(يونس: من الآية64) وقوله -تعالى-: (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)(الأنعام: من الآية34) وقال -تعالى-: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (الكهف:27)
2- الشمول:
لما كانت الدعوة ربانية كانت -ولا بد أن تكون- دعوة شاملة لكل مناحي الحياة منظمة لعلاقة الإنسان بربه من الناحيتين العلمية والعملية، وكان لابد أن يكون منهج الدعوة شاملاً لقضايا العقيدة والعبادة، ومنظما لها على أسس علمية وعملية قويمة، وشاملاً كذلك للأحكام المتعلقة بأمور المعاملات، والأخلاق والقيم والمثل العليا، وأسس التعاون والاجتماع على البر والتقوى، كما أنها شاملة لقواعد التربية القويمة، وتنمية روح المراقبة للنفس.
فإن المنهج الإسلامي جاء شاملاً لكل شيء حتى تعليم الناس دخول الخلاء، قالت اليهود لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل.
وقال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(المائدة: من الآية3)
وقال -تعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية38) وقال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(النحل: من الآية89)
3-اليسر ورفع الحرج:
ومن خصائص المنهج السلفي الاتجاه نحو التيسير ورفع الحرج، لأن هذا هو المنهج الذي جاء به رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- في الأحكام والتكليفات، فلا تكليف بما فيه حرج شديد قال -تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286) وقوله -تعالى-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)، وقوله -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة: من الآية185) وقوله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طـه:2) وقوله -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن هذا الدين يسر)، وقوله -صلىّ الله عليه وسلم-: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وهذا واضح في التشريع الإسلامي.
في قوله -صلىّ الله عليه وسلم-: (صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فصل على جنب)، وقوله -تعالى-: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)(النساء: من الآية43)، وقوله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(البقرة: من الآية184)
وقوله -تعالى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(آل عمران: من الآية97)
وقوله -تعالى-: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا)(الطلاق: من الآية7)
وروى البخاري: (ما خُير رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه).
وقوله -صلىّ الله عليه وسلم-: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة).
وقال الشاطبي -رَحمه الله-: (إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع).
وقوله -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ )(البقرة: من الآية280)
وقوله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:91)
وقوله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(الفتح: من الآية17)
وإن رفع الحرج والتيسير والسماحة والسهولة في هذا المنهج راجع إلى الوسطية فلا إفراط ولا تفريط، فالتنطع والتشديد حرج في جانب عسر التكليف، والإفراط والتقصير حرج فيما يؤدي إليه من تعطيل المصالح، وعدم تحقيق مقاصد الشرع، ورفع الحرج والتيسير ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة في طريق الامتثال لأوامر الله تعين على تحقيق الغاية، وهي تحقيق العبودية لله وحده؛ فليس معنى اليسر ورفع الحرج أن نلتمس التخفيفات ونتتبع مواطن الرخص، ونبحث عن الأسهل بعيدًا عن منظور الشرع، ونتلمس زلات وعثرات العلماء فإن ذلك يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام، والابتعاد عن الشرع والتهاون في مسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات المالية، فلا يجوز أن تنقلب الوسائل إلى غايات وأن تتغلب الوسائل على الغايات.
وليس رفع الحرج واليسر أن تمتنع المشقة بالكلية بل لا يخلو عمل من نوع مشقة لكنها مشقة واقعة تحت حد الاستطاعة فالتكليفات فيها نوع مشقة ولو لم يكن فيها غير مخالفة الهوى لكانت نوع مشقة فهي إذًا مشقة معتادة لا يمتنع التكليف معها.
فالتيسير والتسهيل في المنهج الإسلامي يتعدد طرقه بحسب الحاجة ومقتضيات الحال:
1-إنقاص التكليف وهذا عمن لا يطيقه أو يطيقه ولكن بمشقة كبيرة كقصر الصلاة الرباعية في السفر.
2-إبدال التكليف بتكليف آخر أخف منه، وذلك عندما يغدو التكليف الأول شاقًا مثل التيمم عند عدم وجود الماء أو بعده أو العجز عن استعماله.
3-تقديم التكليف عن موعده أو تأخيره في العبادات المؤقتة كالجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة وجمع الصلاة للمسافر وتأخير أداء الصوم للحائض إلى ما بعد الطهر منه.
4-التيسير برفع التكليف أصلاً والإعفاء منه عندما لا يكون هناك طريق لربع المشقة في تطبيقه كما في إعفاء الحائض من الصلاة بالكلية وكذا النفساء وإعفاء الفقير من الحج.
5-قد يكون التيسير بإباحة المحرم والممنوع وذلك في حالة الاضطرار كأكل الميتة لمن خاف على نفسه الهلكة ولا شيء عنده غيرها قال -تعالى-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(البقرة: من الآية173)
الأمر الثالث
المنطلقات التي تنطلق منها دعوة الحق
المنطلقات التي تنطلق منها الدعوة إلى الله -تعالى- لابد أن تكون منطلقات شرعية حتى تتحقق النتائج المرجوة من الدعوة وحتى يُشاء لهذه الدعوة الاستمرار والبقاء، لأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، ولابد من أن تكون المنطلقات هي منطلقات دعوة الأنبياء والمرسلين إذ هم خير الدعاة إلى الله عزَّ وجل.
فالمنطلق الأول كون الدعوة عبادة لله:
فينبغي أن تنطلق الدعوة من كونها عبادة لله -عزّ وجل- فإذا كانت كذلك فإن الداعي إلى الله -عزّ وجل- يبذل جهده ابتغاء المثوبة من الله -سبحَانه وتعالى-، وكذلك يستمر في دعوته غير مُقصر ولا متوان ولا مفرط؛ لأنها عبادة وقربة لله -تعالى- والله -سبحَانه وتعالى- قد أقر بالدعوة إليه فقال -سبحَانه وتعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104)
وأمر الله -سبحَانه وتعالى- بالدعوة وعلق الفلاح عليها وقال -سبحَانه وتعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(آل عمران: من الآية110)
فجعل الله الخيرية في الأمة حال كونها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقال -تعالى-: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:114)
فوصف الله القائمين بأمر الدعوة بالصلاح وقال -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114)
فجعل الله خير الكلام هو ما كان أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر، وقال -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79،78)
لعنهم الله لتركهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وقال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165)
فكتب الله -سبحَانه وتعالى- النجاة للدعاة إلى الله وأهلك الباقين وقال -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199)
فأمر الله بالأمر بالمعروف، وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71)
فوصف الله -سبحانه- المؤمنين بأنهم يقومون بواجب الدعوة إلى الله -عزّ وجل- يتولى بعضهم بعضًا في ذلك، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41) فذكر ربنا -سبحَانه وتعالى- صفات الممكنين في الأرض ومنها الدعوة إلى الله.
فضل الدعوة إلى الله:
ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثيرة ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)
فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولاً منهم وعلى رأسهم الرسل عليهم -الصلاة والسلام- ثم أتباعهم على حسب مراتبهم وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- قال: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، وجاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ننقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئًا)، وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال لعلي -رضي الله عَنه-: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم).
وهذا يدل على أن الداعي يُعطى مثل أجور من هداه الله على يديه، ولو كان في آلاف الملايين، فيأخذ مثل أجورهم وإدراك هذا الفضل العظيم للدعوة إلى الله يجعل المسلم يجتهد في ذلك.
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (أن ا لله وملائكته وأهل سماواته وأرضه حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).
الترهيب من التقصير في الدعوة إلى الله:
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة:174)
وأخبر الله -تعالى- أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى ملعون وذلك في قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ) (البقرة:159)
وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187)
قال قتادة: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم شيئًا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ثم تلا هذه الآية: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)(آل عمران: من الآية187)
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (من سئل عن علم علمه وكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).
كون الدعوة عبادة لله تعالى يستلزم شروطًا:
1-الإخلاص: إذا كانت الدعوة عبادة لله -عزّ وجل- فهي تفتقر إلى الإخلاص، لأن العبادة لا تُقبل عند الله -تعالى- إلا إذا كانت خالصة له وحده، فالله أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملاً أشرك فيه معه غيره تركه الله وشركه بل وأحبط عمله، قال -تعالى-: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(الزمر: من الآية65)
فالدعوة ينبغي أن تتكون خالصة لله عزّ وجل كما أمر في قوله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ)(يوسف: من الآية108)، فلا ينبغي أن يدعو إلى فكرة أو فلسفة أو أيدلوجية أو مذهب أو منهج أو طريقة خلاف ما جاء به رسول الله صلىّ الله عليه وسلم لأن العبادة لابد لها من إخلاص ومتابعة، قال -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(الكهف: من الآية110)
وقال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5)
وعلى ذلك: فعلى الداعية أن لا يقصد من دعوته سمعة ولا جاهًا ولا منصبًا ولا لفت أنظار الناس إليه وتكثير الأتباع وغير ذلك من المقاصد الدنيوية؛ فإن ا لخطر يهدد الداعية هو أن يكون قاصدًا للدنيا وقاصدًا للمال، فالداعية قد يكون مهددًا بأن يكون قصده كسب ثناء الناس ومدحهم أو التفاخر بالأتباع، فإن بعض الدعاة يفتخر بأنه يحضر محله ألف أو ألفان ويحضر درسه المئات ويحضر خطبته جماهير غفيرة، فينبغي أن يتنبه الداعية إلى أن الدعوة واجبة عليه، فهو أجيرٌ ينفذ ما أمره الله به بغض النظر عن الكثرة أو القلة من الأتباع طالما أنه يقوم بما أمره الله به. قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله يريد به عرض الدنيا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وصح عن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- ذكر أول من تسعر بهم النار ثلاثة فيهم: (رجل عالم قارئ جيء به فعرفه الله -جل وعلا- نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها قال: تعلمت فيك العلم وعلمته، قال: كذبت بل تعلمت ليقال عالم وقد قيل، ثم يأمر به إلى النار).
2-الصدق: ينبغي أن تكون أقوال الداعية وأفعاله كلها تنطق بالصدق قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119) فلابد للداعية من أن يحمل هذه الدعوة بصدق، وأن يؤديها بأمانة، قال -تعالى-: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ)(محمد: من الآية21)، وقال -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا).
والصدق كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هو الفارق بين الإيمان والنفاق.
قال -تعالى-: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1)
فشهد الله على أهل النفاق بأنهم كاذبون وشهد لأهل الإيمان بالصدق فقال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15).
وقال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر:8).
فالداعية ينبغي أن يصح قصده، وتصدق نيته، وتتجرد للخير إرادته، وأن يراعي معنى الصدق فيما يناجي به ربه كقوله: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(الأنعام: من الآية79)
فإن قلبه إن كان منصرفًا عن الله مشغولاً بأماني الدنيا وشهواتها، فهو كاذب فإذا كانت الدعوة عبادة لله، وهو عبدٌ لله فلا ينبغي أن يكون عبدًا لنفسه أو لدنياه أو لشهوته، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم).
فسمى كل من تعبد قلبه لشيء عبدًا له، وإنما العبد الحق لله -عزّ وجل- من أٌعتق من غير الله -تعالى- واشتغل بالله وبمحبته وتقيد ظاهره وباطنه بطاعته فلا بكون له مراد إلا الله وأخيرًا، فالصدق هو استواء السر والعلانية بأن يكون الباطن مثل الظاهر أو خيرًا من الظاهر.
3-الصبر: القائم بأمر الدعوة إلى الله لابد أن يُبتلى، فإذا ابتلى فليس له إلا الصبر فلقد بين ربنا -سبحَانه وتعالى- هذا في كتابه العزيز في قوله -تعالى-: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)، أي أنهم كما تواصوا بالحق أوذوا في الله فصبروا على ذلك ابتغاء مرضات الله.
وقال -تعالى- في سورة لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (لقمان:17)، أي أنه لما أمر ونهى أصابه ما أصباه من البلاء فينبغي أن يصبر على ذلك، والصبر هو حبس النفس على ما تكره فلابد للداعية من الصبر على الابتلاء والصبر على الدعوة حتى لا يمل من طول الطريق؛ لأن الإنسان من شأنه العجلة وعدم الصبر لكن إذا تكلف الصبر صبره الله قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)، فهو خير وأوسع من المال والجاه والمنصب الرفيع ومن كل شيء.
فكم من إنسان يبدأ بالدعوة إلى الله فيواجه بالإيذاء والتكذيب وبالسخرية فيترك الدعوة إلى الله -جل وعلا- لأنه لم يتميز بالصبر قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم).
وقال -جل وعلا-: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران:186)
فالداعية بالذات يحتاج إلى الصبر؛ فسيجد الداعية من يشك في نيته، قال -تعالى-: (وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (صّ:6) ، وقال -تعالى-: (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ)(يونس: من الآية78).
وسيجد الداعية من يرفض قبول دعوته فعليه أن يصبر، وسيجد من يترك الدعوة ممن كان يأمل فيهم خيرًا فضعفوا وتخلوا فيجب أن يصبر، وسيجد من أقرانه من يؤذيه وينال منه فينبغي أن يصبر، والصبر يكون بالله ولله ومع الله.
فصبرك بالله: استعانة به ورؤية أنه المصير وأن صبرك بربك لا ينفك (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ )(النحل: من الآية127)
والصبر مع الله: هو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ودورانه مع أحكامه الدينية صابرًا نفسه فيها سائرًا بسيرها.
4-العلم: على الداعية أن يتحلى بالعلم في دعوته لن الدعوة عبادة، والعبادة لابد لها من دليل شرعي، والعلم كما قال ابن عبد البر وغيره من العلماء: أجمع المسلمون على أن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم، وأن العلم معرفة القول بدليله، فالعلم إذًا هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد فالمتعبد بالهوى، والمقلد الأعمى ليس من زمرة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فالأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
أما المقلد الذي يجهد ويكدح في رد ما جاء به رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- إلى قول مقلده ويضيع ساعات عمره في التعقب والهوى ولا يشعر بتضييعه، تالله إنها فتنة عمت فأعمت، ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير وهرم فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجورًا وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورًا، ولما عمت بها البلية وعظمت بسببها الرزية بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ولا يعدون العلم إلا إياها فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعتاد وقالوا لإخوانهم: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ)(غافر: من الآية26)
فحقيق لمن لنفسه عنده قدر وقيمة ألا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه، ولم يحبس نفسه عليهم فما هي إلا ساعة حتى يُبعثر ما في القبور ويحصل ما في ا لصدور وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله، وينظر كل عبد ما قدمت يداه، ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وعن سنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين.
وقد حرم الله -سبحانه- القول عليه بغير علم وجعله من أعظم المحرمات، فقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
وقال -تعالى-: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل:116، 117).
وقال -تعالى-: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36)
وقال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (الحج:8)
ولأن الداعية إذا ذهب يدعو بغير علم فلربما أمر بما نهى عنه الشرع، ولربما نهى عن ما أمر به الشرع، ولربما صدَّ عن سبيل الله وهو يظن أن يدعوا على الله.
الثمرة الخامسة - الديمومة:
أي استمرار الدعوة وعدم انقطاعها، وذلك إذا كانت الدعوة عبادة فلا يتصور التقصير فيها أو التفريط أو الانقطاع عنها، لأن العبادة لا تسقط إلا بالوفاة أو العجز عنها، ومن المعلوم أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، ولذلك كان علم رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- ديمة وكان إذا عمل عملاً داوم عليه، وقال -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) وحتى إذا لم يجد الداعية استجابة من المدعوين فإنه لا ينقطع عن دعوتهم؛ لأنه مأمور بها وليس مأمروًا بتحقيق النتائج فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والهداية التي هي خلق الإيمان والهدى والتقى في قلوب العباد إنما هي بيد الله، وليست بيد أحد سواه، وبالتالي فإن الداعية ينبغي عليه أن يستمر في دعوته بغض النظر عن النتائج وبغض النظر عن كثرة الأتباع أو قلتهم، وأن الداعية مأجور على دعوته إذا قام بها ولذلك ينبغي أن يكون انشغال الداعية بما أوجب الله عليه من إبلاغ الحق واستفراغ الوسع والطاقة في ذلك، قال تعالى عن نوح عليهِ السلام: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً)(نوح5، 10).
فنوح -عليه السَلام- استمر في دعوته في جميع الأوقات بالليل والنهار، واستخدم جميع الوسائل في دعوته في دعوة الأفراد وفي العلن في مجتماعاتهم ونواديهم مع أن الذين استجابوا له كانوا قلة، ولكنه استمر يؤدي ما أوجب الله عليه من الدعوة ألف سنة إلا خمسين عامًا.
واعلم أيها الداعية أن الله جعلك حاملاً لمشعل الهداية ودعوة الخير للناس جميعًا فأنت تبلغ كلام الله ودينه -سبحَانه وتعالى- للناس كافة وحين تعرض وتتنكب الطريق فالبديل هو غيرك ممن يقوم بهذه الأمانة، قال -تعالى-: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(محمد: من الآية38)
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة:54)
وهذا نبي الله يوسف -عليه السَلام- وهو في السجن يعاني لوعة الغربة وألم البعد وقهر الظلم لا يترك الدعوة إلى الله بل حين يسأله السجينان معه عن تأويل الرؤيا يبدأ بقوله: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)(يوسف: 39، 40).
وهذا نبي الله يعقوب -عليه السَلام- عند وفاته في آخر ساعة من حياته لا ينسى الدعوة إلى الله -تعالى-: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:133)
مراعاة السنن الكونية:
إن ما يقع في هذا العالم من حوادث ومجريات لا يقع صدفة ولا خبط عشواء وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت لا يخرج عن أحكامه شيء.
والبشر يخضعون لقوانين ثابتة يسميها القرآن بالسنن في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يحكمون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، وما يصيبهم في الدنيا والآخرة من عذاب أو نعيم.
ولا شك أن معرفة سنن الله الكونية من جملة الدين وهذه المعرفة ضرورية ومن الواجبات الدينية؛ لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني وبذلك ننجو مما حذرنا الله منه ونظفر بما وعد الله به عباده المؤمنين المتقين، لأن هذه السنن تتسم بالثبات والإطراد والعموم فهي ثابتة لا تتغير.
قال -تعالى-: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الأحزاب:62)
وقال -تعالى-: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)(فاطر: من الآية43)
وهي مطردة لا تتخلف، ويدل على اطرادها أن الله -تعالى- قص علينا أحوال الأمم السابقة وما حل بها، لنتعظ ونعتبر ولا نفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها.
قال -تعالى-: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:137، 138).
وقال -تعالى-: (فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) (النازعات: 23، 26).
وقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:51)
ومن ذلك: سنة الله في الأسباب والمسببات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات).
وقال ابن القيم رَحمه الله -تعالى-: (والله أمر بالقيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره، وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها؟) (مدارج السالكين ج3/478).
وذلك لأن إسقاط الأسباب والإعراض عنها، وعدم مباشرتها بحجة التوكل على الله يفضي بفاعل ذلك إلى مخالفة الشرع؛ فإن الله -تعالى- قد أمر بالأخذ بالأسباب، فمن أعرض عنها فإنما يعرض عما أمره الله -تعالى- وكان بعض الناس يقولون: إن من تمام التوكل ألا يحمل المتوكل الزاد في سفره للحج وغيره من الأسفار، فيدخل في الصحراء بلا زاد ولا ماء اتكالاً على الله -تعالى-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله- في رده على هذا القول: (وهذا القول وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره فإن الله -تعالى- خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها فهو غالط).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قول النبي -صلىّ الله عليه وسلم-: (أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز): أمر بالتسبب المأمور وهو الحرص على المنافع وأمر مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله؛ فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين. (الفتاوى لابن تيمية 1/359).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (8/359): (فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له، وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله كما يؤدي الفرائض وكما يجاهد العدو ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمره الله به من الجهاد، ومن تَرك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم)
ومن هذا يتبين لنا أن الله خلق الأشياء مرتبة على أسباب، وأمرنا أن نأخذ بهذه الأسباب إذا كانت ممكنة لنا مع الاعتماد على الله -تعالى- لا على الأسباب، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها، وهذه هي حقيقة التوكل يباشر المسلم الأسباب، وثقته بالله واعتماده عليه كالفلاح في أرض تسقى بماء المطر يحرث الأرض ويلقي البذور واعتماده على الله في إنزال المطر وإخراج الزرع.
وليكن معلومًا أن السبب يستوجب مسببه إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه، فالأكل مثلاً سبب للغذاء والشبع واستدامة الحياة، وليكن بشرط صلاحية أعضاء الإنسان الضرورية لتلقي الطعام والاستفادة منه وانتفاء الموانع التي تعيق عمل هذه الأعضاء في انتفاعها من الأكل.
قال الإمام الشاطبي في (الموافقات 1/218): (وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ولا استكملت شرائطها ولم تنتفِ موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها باختياره، وأيضًا فإن الشارع لن يجعلها أسبابًا مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببًا شرعيًا سواء عليها أقلنا أن توافر الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا فالثمرة واحدة).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع).
وهذا الأمر فيه تنبيه للعبد حتى لا يقول أخذت بالأسباب ولم تتحقق النتائج لأنه ليس شيءٌ من الأسباب مستقلاً بمطلوبه، بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه وهي التي تسمى بالشروط، ولابد من انتفاء الموانع التي تمنع من تحقق النتائج المترتبة على هذه الأسباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: (فلابد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه بل لابد من انضمام أسباب أخرى إليه ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له والطعام والشراب لا يغذي على بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى).
وكذلك إذا كان الإنسان عاجزًا عن بعض الواجبات فإنها تسقط عنه كمن عجز عن القيام أو القراءة أو الركوع أو السجود أو شد العروق واستقبال القبلة أو غير ذلك؛ سقط عنه ما عجز عنه (بل ينبغي أن يعرف أن الاستطاعة الشرعية المشروطة في الأمر والنهي لم يكتف الشارع فيها بمجرد المكنة ولو مع الضرر بل متى كان العبد قادرًا على الفعل مع ضرر يلحقه جعل كالعاجز في مواضع كثيرة من الشريعة. (مجموع الفتاوى 8/353).
من هذه السنن الكونية: سنة الله في اتباع هداه والإعراض عنه:
1-هدى الله هو الهدى فمن ابتع غير هدى الله ضل وغوى، قال -تعالى-: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
2-هدى الله هو الإسلام، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(التوبة: من الآية33)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)(آل عمران: من الآية19)
3-من يترك هدي الله يتركه الله وما اختاره، قال -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
4-لا حزن ولا خوف على متبع هدي الله، قال -تعالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)
5-طيب العيش لمتبع الهدي، والعيش الضنك للمعرض عنه، قال -تعالى-: (ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طه: 124، 127).
سنة الله في التدافع بين الحق والباطل:
التدافع بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وغيرهم، لأنهم هم الذين يحملون معاني الحق أو معاني الباطل، ويسعون إلى إظهار هذه المعاني في الخارج وإقامة شؤون الحياة على أساسها فيحصل التعارض والتزاحم والتدافع بين الفريقين بين أصحاب الحق أي بين المؤمنين وبين غيرهم وهذا التدافع أمر لابد منه، لأنهما ضدان والضدان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته أو على الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة فأهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم وإنما يسعون على وأد الحق وأهله وإزالة هذا الحق بالقوة وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال وبكل ما يرون فيه قوة وقدرة لتحقيق ما يرون.
قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) (لأنفال:36)
وعلى ذلك فلابد للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله وتمكن أهل الحق من محق الباطل والغلبة على أهله، قال -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(لأنفال: من الآية60)
وقضت سنة الله في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله.
قال -تعالى-: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)(الشورى: من الآية24)
وقال -تعالى-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)(الأنبياء: من الآية18)
وسنة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف أبدًا لأنها إخبار من الله -تعالى- والله أصدق القائلين، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) (الصافات:173، 171).
قال -تعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر:51)
وقال -تعالى-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47).
سنة الله في ابتلاء المؤمنين بالشدائد والأذى:
قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)
وقال -تعالى-: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران:186)
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
ويستفاد من الحديث أن سنة الله العامة أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأفضل فالأفضل في الصلاة والدين وتقوى الله -تعالى- وهذه سنة ماضية وباقية في المؤمنين دون تخلف.
والمحن وإن كان مما جرت به سنة الله في ابتلاء عباده المؤمنين، وفيه تمحيص لهم وتمييز بين الصادق والكاذب والخبيث والطيب، ولكن حذار أن تجلب الجماعة المسلمة المحن لنفسها أو تستعجل وقوعها لها مدفوعة بالحماس لنصرة الإسلام أو مستحضرة في نفسها أن المحن والشدائد لابد منها، وأنها بدون المحن التي تنصب عليها سوف تتهم بالضعف والقصور في خدمة الإسلام والدعوة إليه مما يفقدها رضا الناس وثقتهم بها وتأييدهم لها وإقبالهم عليها، وهذا منها خطأ جسيم مرده الجهل بسنة الله في الفتن والابتلاء، أو طلبها السمعة والرياء أو تصورها الخاطئ لما تحصل به ثقة الناس فالمحن والشدائد مما يلاقيه المؤمنون والداعون إلى الله، ولكن لا تعني وجوب أو استحباب أو إباحة تعمد جلب هذه المحن وتعمد إيقاعها بالنفس، كما لا تعني هذه السنة عدم جواز الحذر أو الوقاية من الفتن والمحن والشدائد لئلا تقع، ولا تمنع من رفع المحن إذا وقعت فالمقصود بكونها سنة ماضية في المؤمنين أن لا نستغرب ولا نندهش إذا أصابتنا المحن والشدائد، وأن علينا أن نقابلها بالصبر الجميل والسعي الحثيث لرفعها لأن الشرع قد أذن أو ندب لذلك وأوجبه علينا، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا).
سنة الله في الظلم والظالمين:
فمن سنة الله -تعالى- في الظلم والظالمين أن الرعية الظالمة التي يتظالم أفرادها فيما بينهم أن يولي عليهم حاكمًا ظالمًا فيكون تسلطه عليهم من العقاب لهم على ظلمهم، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129)
ومن سنة الله -تعالى- في الظلم والظالمين أنهم لا يفلحون ولا يفوزون في الدنيا كما لا يفلحون ولا يفوزون في الآخرة، قال -تعالى-: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام:135)
ومن سنة الله -تعالى- في الظالمين إهلاكهم، قال -تعالى-: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)(الأنعام: من الآية45)
وقال -تعالى-: (هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)(الأنعام: من الآية47)، وقال -وتعالى-: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)(يونس: من الآية13)
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)
سنة الله في الذنوب والمعاصي:
إن سنة الله في أهل الذنوب والمعاصي أن الله يهلكهم بها فهي سنة ثابتة تخضع لها الأمم حين تفشو فيها الذنوب، فإنها تهلك إما بقارعة من الله -تعالى- كما كان يحدث في الأمم السابقة، وأما بالانحلال البطئ الطبيعي الذي يسري في كيان الأمة وهي توغل في متاهات الذنوب وتحسب أنها في مأمن من الهلاك، قال -تعالى-: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (الأنعام:6)
وأن الله يهلكهم مهما كانت قوتهم، قال -تعالى-: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (غافر:21)
والذنوب سبب للمصائب، قال -تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران: من الآية165)
سنة الله في الإيمان والتقوى والعمل الصالح:
1-من ثمرة التقوى الفرقان للمتقين، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:29)
2-يجعل الله لهم من كل ضيف مخرجًا، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(الطلاق: 3، 4).
3-معية الله للمتقين معية التوفيق والسداد والنصر، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل:128)
4-عون الله للمتقين في الحرب، قال -تعالى-: (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران:125)
5-نصر الله للمؤمنين، قال -تعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) (غافر:51)
6-إنجاء الله للمؤمنين، قال -تعالى-: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:103)
7-المؤمنون هم الأعلون، قال -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)
8-لا سبيل للكافرين على المؤمنين، قال -تعالى-: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(النساء: من الآية141)
9-الخصب وزيادة القوت بالإيمان والتقوى، قال -تعالى-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود:52)
10-المؤمنون يرثون الأرض، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105)
وهذه بعض السنن الكونية وهي كثيرة ينبغي دراستها والعناية بها ومراعاتها والاعتبار بها؛ لأن معاندة السنن الكونية يعود بالوبال على المعاندين.
المنطلق الثاني
منطلق الرحمة
وتنطلق الدعوة إلى الله -عزّ وجل- من منطلق الرحمة وهي رحمة الناس من عذاب الله -عزّ وجل- في الدنيا والآخرة، وذلك بإنقاذهم من الضلالة وإخراجهم إلى النور، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وإنقاذهم من نار وقودها ا لناس والحجارة إلى جنات عرضها الأرض والسموات، والداعية عندما يرحم الناس إنما يستجلب الرحمة لنفسه، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (من لا يرحم لا يرحم)، (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).
ودعوة الأنبياء دعوة مليئة بالرحمة فقد وصف الله -تعالى- نبيه محمد -صلىّ الله عليه وسلم- بأن مجيئه ودعوته كانت رحمة للعالمين، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)
ونوح -عليهِ السلام- حين سبه قومه وآذوه بين لهم أنه ما جاء إلا لرحمتهم: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 61، 63).
وقال -سبحانه وتعَالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)
فالله -سبحانه وتعَالى- أنزل الكتب وابتعث الرسل لرحمة الناس، قال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(النور: من الآية56)
وقال -تعالى-: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155)
وقال -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور:56)
وقال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (يّـس:45)
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إنما أنا رحمة مهداة).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إني لم أبعث لعانًا وإنما بعثت رحمة)، وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر).
من ثمرات الرحمة:
1-الرفق واللين:
لابد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من استعمال الرف فيما يأمر وينهى، فإن الله -تعالى- يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف، وقال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125)، فمن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف، فإنها تضر أكثر مما تنفع، وينبغي أيضًا البعد عن الغرور والكبر، فربما يغتر الداعية بنفسه فينظر إلى نفسه أنه أفضل من الآخرين، فيتعالى على الناس، ويحتقر الناس والمفروض أن ينظر إلى الناس نظرة إشفاق لا نظرة احتقار قال المسيح -عليهِ السلام-: (لا تنظروا في ما في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد فإن الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية).
فالداعية ينبغي أن يكون رفيقًا في دعوته، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه)، فينبغي على الداعية أن لا يشق على الناس، ولا ينفرهم من الدين بالغلظة والعنف المؤذي الضار، بل عليه أن يكون لين الكلام طيب الكلام حتى تؤثر دعوته في قلوب الناس وحتى تأنس القلوب إليه وتلين، أما العنف فإنه منفر لا مقرب، ومفرق لا جامع.
وقد صح عن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه مالا يعين على العنف).
وصح عن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- أنه قال: (عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم- : (من يحرم الرفق يحرم الخير كله).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن لله آنية من أهل الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار غدًا؟ على كل هين لين قريب سهل).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (المؤمنون هينون لينون).
صور من رفقه -صلىّ الله عليه وسلم-:
جاء في الصحيح أن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- بينما هو في المسجد إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- مه مه، قال رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم-: (لا تزرموه دعوه)، فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله -عزّ وجل- والصلاة وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم-، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه، وفي رواية للترمذي أن النبي -صلىّ الله عليه وسلم- قال لأصحابه: (أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلوًا من ماء إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري تعليقًا على هذا الحديث: وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولاسيما إذا كان ممن يحتاج إلى استئلافه وفيه رأفة النبي -صلىّ الله عليه وسلم- وحسن خلقه، قال ابن ماجة وابن حبان في حديث أبي هريرة، فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام فقام إلى النبي -صلىّ الله عليه وسلم-: بأبي هو وأمي فلم يؤنب ولم يسب).
وفي الحديث أيضًا دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، والمبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمره -صلىّ الله عليه وسلم- إياهم عند فراغ الأعرابي من البول بصب الماء على النجاسة.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي -صلىّ الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا مه مه فقال: (ادنه)، فدنا قريبًا: قال فجلس قال: (أتحبه لأمك؟)، قال لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)، قال: (أفتحبه لابنتك؟)، قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم)، قال: (أفتحبه لأختك؟)، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: (أفتحبه لعمتك؟)، قال لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم)، قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم)، قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)، فلم يكن ذلك الفتى يلتفت إلى شيء بعد ذلك.
2-التواضع:
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم-: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان).
وهذا الحديث ورد في النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق، والمقصود بأنه لا يدخل الجنة من أول وهلة مع الكبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان لا يدخلها دخول تأبيد وتخليد.
فالداعية ينبغي أن يتواضع ولا يتكبر ولا يتعالى على المدعوين حتى لا يقابل بكبرٍ وتعالٍ أشد من كبره وتعاليه ولا يستجيب له المدعوون، قال الله -تعالى-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الحجر: من الآية88)، وقال -تعالى-: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29) ، وقال -تعالى-: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )(المائدة: من الآية54).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد).
والتواضع خفض الجناح للخلق ولين الجانب، وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (قال الله عزّ وجل الكبرياء ردائي والعزة إزاري فمن نازعني فيهما عذبته بناري).
ومعناه أن الكبرياء والعظمة صفتان لله -سبحانه- واختص بهما لا يشركه أحد فيهما، ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطهما، لأن صفة المخلوق التواضع والتذلل، فمن تخلق بذلك فيصيرا في معنى المشارك فيقذفه الله في النار.
3-الإلحاح في الدعوة والصبر على المدعو:
قال -تعالى- في حق نوح -عَليه السلام-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا) (نوح 5: 10).
فألح عليهم نوح -عَليه السلام- ألف سنة إلا خمسين عامًا، وهو يكرر الدعوة ويستغل كل الوقت بالليل والنهار وكل الوسائل في الجهر والسر ومع الجميع فخاطب الأفراد والجماعات.ً
والإلحاح في الدعوة سببه الخوف على المدعو من سوء العاقبة، ولكوننا لا ندري متى يهتدي فينبغي أن نكرر له النصح المرة بعد المرة حتى يقذف الله -سبحَانه وتعالى- في قلبه الهداية.
وفي قصة مؤمن آل ياسين أرسل الله -سبحَانه وتعالى- ثلاثة رسل على أصحاب القرية ومع ذلك جاء الرجل المؤمن ليكرر دعوة الرسل ويدعوهم إلى اتباع الرسل، قال -تعالى-: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يّـس:21، 20)
وانظر على إصرار النبي -صلىّ الله عليه وسلم- على هداية الناس والحول دون أن يهلكوا أنفسهم في النار، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ التي تَقَعُ في النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا).
وقال -تعالى-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(الكهف:6)، وقوله -تعالى-: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:3)، وقوله -تعالى-: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(فاطر: من الآية8)
ومعناه أنه -صلىّ الله عليه وسلم- من شدة نصحه لهم كأنه قاتل نفسه، وهذا يدل على شدة نصحه لهم -صلىّ الله عليه وسلم- وحزنه على عدم إيمانهم وذلك شفقة ورحمة بهم، وهذا فيه إشارة إلى مزيد شفقته واهتمامه وحرصه -صلىّ الله عليه وسلم- على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين المهتدين.
المنطلق الثالث
الاستطاعة
والمقصود أن الداعية ينبغي أن ينظر إلى قدراته فلا يكلف نفسه مالا يطيق، ولا يكلف نفسه ما لم يكلفه به الله -سبحَانه وتعالى- حتى يستطيع أن يقوم بالواجبات المنوطة به؛ ولأنه إذا كلف نفسه مالا يطيق أو مالا يستطيعه في وقته أو في مكانه الحالي فإن ذلك قد يؤدي على القنوط واليأس إذا وجد نفسه لا يستطيع تحقيق هذه الأشياء التي كلف نفسه بها، وقد يؤدي على التخلي عن الدعوة إلى الله -عزَّ وجل-، أو يؤدي إلى الرعونة والتعجل وعمل أعمال تعود عليه بالضرر العظيم وعلى دعوته كذلك، فينبغي أن تكون حركة الداعية منضبطة متوافقة مع قدرته وطاقته فلا يألوا جهدًا في الدعوة، ولا يتنطع فيشق على نفسه وعلى إخوانه، ولا يمنع ذلك أن تكون هناك آمال عريضة وطموحات كبيرة نسعى لتحقيقها، ولكننا مع ذلك ينبغي أن نتعامل مع الواقع الذي نحياه وأن نحقق في كل وقت ما نستطيع تحقيقه.
فقد ذكر ربنا سبحَانه وتعالى عن شعيب عليهِ السلام أنه قال: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).
فذكر شعيب -عليهِ السلام- أنه يريد الإصلاح كله ولكنه يحقق منه ما يستطيعه وما يقدر عليه.
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأن أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (اكلفوا من اعمل ما تطيقون فإن خير العمل أدومه وإن قل).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (أيها الناس عليكم بالقصر، عليكم بالقصر فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا).
وقال الإمام الشاطبي -رَحمه الله- في (الموافقات 2/89): الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة أو التي تعد مشقة، هو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه أو عن بعضه أو وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله أو حال من أحواله فالمشقة هنا خارجة عن المعتادة، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب فلا يعد في العادة مشقة.
فمن ألزم نفسه فوق طاقتها أو أدى استمراره على العمل إلى انقطاع عنه أو عن أعمال شرعية أخرى من الحقوق المتعلقة بالإنسان فقد غلا، فالمكلف مطالب بتكاليف وأعمال شرعية لابد له منها يقوم فيها بحقوق الله -عزّ وجل- وبحقوق عباده، فإذا أوغل في عمل شاق فربما قطعه عن غيره، وربما أفضى على السآمة والملل وتوفيت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور.
يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات 2/107): ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا، ولذلك قال رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (إن الدين يسر ولا يشادُّ الدين أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
ولقد كان رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- حريصًا على مراعاة هذا المعنى وهو عدم جلب المشقة غير المحتملة على هذه الأمة، فقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا).
فعلى ذلك فإذا علم المكلف أنه يدخل عليه في جسمه أو نفسه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنته ويكره بسببه العمل فهذا أمر ليس له، ويقال مثل هذا إذا كان الخلل لاحقًا بالمال فهو قرين النفس في الحفظ والصيانة.
فحاصل ذلك أن المكلف إذا كان يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل هذه المشقة الزائدة على المعتادة فتؤثر فيه أو في غيره فسادًا أو تحدث له ضجرًا أو مللاً وقعودًا عن النشاط إلى ذلك العمل فينقطع في الطريق ويبغض إلى نفسه العمل فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك بل يترخص فيه بحب ما شرع له.
قال -تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)، وقال -تعالى-: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا)(الطلاق: من الآية7)
وقال أهل العلم: (لا تكليف إلا بمقدور)، وقالوا: (من فعل ما يقدر عليه فقد فعل ما أمره الله به).
وقال -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)، وقال -تعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة: من الآية185)، وما خُير رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
مراعاة المصالح والمفاسد:
فالمصلحة مطلب شرعي لن شرع الله مصلحة وهي هدف أسمى في المنهج السلفي إلا أن المصلحة مسألة نسبية وليست مطلقة وأنها تختلف من حالة إلى حالة ومن شيء إلى شيء، ومن زمان إلى زمان وما من شيء فيه مصلحة إلا فيه في الغالب مضرة إلى جانب تلك المصلحة.
قال -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة: من الآية219).
فلابد لمعرفة المصلحة والمفسدة من الرجوع إلى الشرع الحنيف حتى نعمل بما فيه مصلحة غالبة، ونبتعد عما فيه مضرة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالاتها على الأحكام)، ولذلك ينبغي العناية بالتفقه في قضية المصالح والمفاسد.
والأمر في الجملة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله- قال: (وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمتا فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته). (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشيخ الإسلام ابن تيمية ص19:11).
فاعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، قال -صلىّ الله عليه وسلم-: (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل منه الناس وباب منه يخرجون) ففعله ابن الزبير.
قال الحافظ ابن حجر: (ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرمًا.
وقال النووي في شرح الحديث: (وفي الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة تعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدأ بالأهم، لأن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عَليه السلام مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريبًا.
وذلك لما كانوا يعتقدون من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيمًا فتركها -صلىّ الله عليه وسلم-.
واعلم أن النهي عن المنكر وسيلة على دفع مفسدة ذلك المنكر المنهي عنه، ورتبته في الثواب والفضل مبنية على رتبة درء مفسدة الفعل المنهي عنه في باب المفاسد إلى أن تنهي إلى أصغر الصغائر فالنهي عن الكفر بالله أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر، ومن استطاع الجمع بين درء أعظم المفسدتين ودرء أدناهما جمع بينهما لأنه متى كان قادرًا على دفع المنكر دفعة واحدة لزمه ذلك وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد.
وإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يفيدان شيئًا أو غلب على ظنه سقط ا لواجب ويبقى الاستحباب لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد وقد كان -صلىّ الله عليه وسلم- يدخل في المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين أنكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الظلمة والفسقة كلما رأوهم لعلمهم أنه لا يجدي إنكارهم وقد يكون من الفسقة من إذا قلت له (اتق الله أخذته العزة بالإثم)، فيزداد في فسوقه وفجوره.
وعلى هذا فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوها جميعًا أو يتركوهما جميعًا ولم يجز أن يأمروا بمعروف ولا ينهوا عن منكر بل ينظر فإذا كان المعروف أكثر أمروا به وإن استلزم ما دون من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله -صلىّ الله عليه وسلم- وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما دونه من المعروف وبكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي وتارة لا يصلح أمر ولا نهي حيث كان ا لمعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
وعلى هذا فالضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه وإذا كان لابد من ارتكاب أحد الضررين فيرتكب أخف الضررين وأهون الشرين ويحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر ويحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
وكذلك تقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة، وتقدم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، وتقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو المتوهمة، وتقدم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة، وكذلك فإن المفسدة الصغيرة تغتفر من أجل المصلحة الكبيرة ولا تترك مصلحة متحققة من أجل مفسدة متوهمة.
قال العز بن عبد السلام -رَحمه الله-: (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله -تعالى- فيها لقوله -سبحَانه وتعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:16)،
وإن تعذر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة أعظم من مصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة.
قال الله -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة: من الآية219)، حرمها لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما.
إذًاً فدعوة الإسلام تقوم على تحقيق المصلحة، قال ابن القيم: (إن الشريعة مبناها وأساسها العدل وتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن ا لمصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل).
الأمر الرابع
أهداف الدعوة إلى الله -عزّ وجل-
الهدف الأول: تعبيد الناس لله -عزّ وجل-:
ينبغي أن يكون هدف الداعية أن يعبد الناس لله سبحَانه وتعالى لأن الله عزَّ وجل لذلك خلقهم وبذلك أمرهم فقال -سبحَانه وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات:56-58)، وقال -تعالى-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (يوسف/40)، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) (الرعد/36)، وقال -تعالى-: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) (النمل/91)، وقال -تعالى-: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) (الزمر/14).
كما نهاهم الله سبحَانه وتعالى عن عبادة غيره فقال -تعالى-: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)(الزمر:66)، وقال -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1-2)، وقال -تعالى-: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64)، وقال -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:104)
وأنكر الله -سبحَانه وتعالى- على الذين يعبدون من دونه آلهة أخرى، فقال -تعالى-: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء:67)
وتوعدهم الله -سبحَانه وتعالى- هم وآلهتهم الباطلة فقال -سبحَانه وتعالى-: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأنبياء:99)
وقد أرسل الله -سبحَانه وتعالى- الرسل لأجل هذه القضية، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، قال -سبحَانه وتعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36)
وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
وقال نوح -عليهِ السلام-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(هود25-26).
وقال هود -عليهِ السلام-: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ) (هود:50)
وقال صالح -عليهِ السلام-: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود:61)
وقال شعيب -عليه السَلام-: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (هود:84)
وقال يوسف -عليهِ السلام-: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:40)
وقال الله -تعالى- مخاطبًا نبينا محمد -صلىّ الله عليه وسلم-: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران/64).
وهذه القضية هي التي حملها الدعاة إلى الله -عزَّ وجل- من حواري الأنبياء كما قال الله -تعالى- عن مؤمن آل ياسين أنه قال: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)(يس22-25).
الهدف الثاني
البشارة والنذارة
اعلم أن ارتباط الدعوة إلى الله عزّ وجل بالتبشير والإنذار وثيق جدًا فقد قصر القرآن مهمة الرسل عليهما في بعض آياته، فقال -تعالى-: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام:48)
وقد ضرب الرسول -صلىّ الله عليه وسلم- مثلاً في هذا فقال: (مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا ثوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق).
وقال الله -تعالى- في حق نبينا محمد -صلىّ الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (الأحزاب:45).
وقال -تعالى-: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (لأعراف:188)
وقال -تعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)
وقال -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
ومن يطالع دعوات الرسل يجد أن دعوتهم قد اصطبغت بالتبشير والإنذار، وذلك لأن التبشير والإنذار على النحو الذي جاءت به الرسل هو مفتاح النفس الإنسانية، فالنفس الإنسانية مطبوعة على طلب الخير لذاتها ودفع الشر عنها، فإذا بصر الدعاة إلى الله النفوس بالخير العظيم الذي يحصلونه من وراء الإيمان والعمل الصالح فإن النفوس تشتاق إلى تحصيل ذلك الخير، وعندما تبين لها الأضرار العظيمة التي تصيب الإنسان من وراء الكفر والضلال فإن النفوس تهرب من هذه الأعمال.
والتبشير والإنذار ليس متعلقًا بالآخرة فقط بل هو متعلق بالدنيا أيضًا فالبشارة تكون للمؤمنين بالعز والتمكين في الدنيا، كما قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55)
وأما البشارة بالسعادة في الآخرة لأهل الإيمان ففي قوله -تعالى-: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لأَصْحَابِ الْيَمِينِ)(الواقعة 15-38).
وأما النذارة للكفار في الدنيا ففي قوله -تعالى-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (فصلت:13).
وأما النذارة المتعلقة بالآخرة ففي قوله -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)(الواقعة51-56).
وإن كان البعض يعيب على الدعاة أخذهم بالإنذار والتبشير ويقولون فلان واعظ على جهة التنقيص ويطالبون الدعاة بالكف عن طريقة الوعظ وتخويف الناس وترغيبهم وهؤلاء بحاجة إلى أن يراجعوا أنفسهم وينظروا في موقفهم هذا في ضوء نصوص القرآن وأحاديث رسول الله -صلىّ الله عليه وسلم- التي تبين أسلوب الدعوة ومهمة الدعاة إلى الله -تعالى-، وحسبك أن تطالع كتابًا مثل كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري لتجد مئات الأحاديث التي تشتمل على الترغيب والترهيب.
الهدف الثالث
إبلاغ الحق إلى الخلق
إن إبلاغ الحق إلى الخلق أحد أهداف الدعوة إلى الله -عزّ وجل-، وذلك أن الناس لا يكلفون بشيء إلا بعد بلوغهم هذا الأمر، قال الله -تعالى-: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15)(الإسراء/15).
وقد أمر الله -عزّ وجل- الرسل وهم الدعاة الأوائل إلى الله أن يبلغوا الحق الذي معهم إلى الناس فقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)(الأحزاب/39).
وقال -تعالى- مخاطبًا نبينا محمد -صلىّ الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)(المائدة/67).
وقال نوح -عليهِ السلام- لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62)(الأعراف/62).
وقال هود -عليهِ السلام- لقومه: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) (الأعراف/68).
وقال صالح -عليهِ السلام- لقومه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) (الأعراف/79).
وقال شعيب -عليهِ السلام- لقومه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) (الأعراف/93).
وقال -تعالى-: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) (النحل/82)، وقال -تعالى-: (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) (المائدة/99)، وقال -تعالى-: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آَبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35 ) (النحل/35).
والبلاغ يكون بإبلاغ ما أنزل الله -سبحَانه وتعالى- من الكتاب وتلاوة آياته على الناس كما قال -تعالى-: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34 ) (الأحزاب/34).
وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 ) (القصص/59).
وقال -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)(الزمر/71).
وقال -تعالى-: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)(الكهف/27).
وقال -صلىّ الله عليه وسلم-: (بلغوا عني ولو آية).
وقد يكون البلاغ بإبلاغ الناس سنة رسول الله صلىّ الله عليه وسلم لقوله -تعالى-: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)(النحل/44).
أي وأنزلنا إليك السنة لتبين للناس ما نزل إليهم من القرآن، وقد يكون البلاغ بإبلاغ الناس والنواهي والمعاني والعلوم والأحكام التي أوحاها الله من غير تبديل ولا تغيير، وذلك لأن البلاغ لا يكتفي فيه بتلاوة الآيات وقراءة الأحاديث، بل لابد من بيان معناها ومراد الله ورسوله منها وبيان الأحكام المترتبة عليها وماذا على العبد بعد معرفتها والداعية لا يكون في سعة ولا يخلص من عذاب الله إلا إذا بلغ ما علم من كتاب الله ومن سنة رسول الله
صلىّ الله عليه وسلم وبيان ما تعلمه من أحكام وذلك لقول الله -تعالى-: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)(الجن22-23).
وقال الحافظ ابن كثير: أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي, كما قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)(المائدة:67(.
وهذا ربعي بن عامر -رضي الله عنه- يحاور رستم قائد الفرس, فقد ذكر ابن جرير في روايته خبر خروج ربعي بن عامر وقدومه على رستم، وأن الفرس قابلوه بمظاهرهم الدنيوية من فُرُش الحرير والوسائد المنسوجة بالذهب, وأنه قابلهم بمظهره المتواضع في لباسه وسلاحه ودابته وما قام به من شق وسادتين لهم وربط فرسه بهما إلى ان قال: "فقالوا ضع سلاحك فقال إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت , فأخبروا رستم فقال: ائذنوا له هل هو إلا رجل واحد, فأقبل يتوكأ على رمحه وزجة نصل يقارب الحظو ويزج النمارق والبسط فما ترك لهم نمرقة ولا بساطاً إلا أفسده وتركه متهكتا مخرقا, فلما دنا من رستم تعلق به الحرس وجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لانستحب العقود على زينتكم هذه , فكلمه فقال: ماجاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد على عبادة رب العباد, ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة, ومن جور الأديان على عدل الاسلام, فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل منا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا, ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى, والظفر لمن بقي.
فيتبين من ذلك أن الهدف الأسمى من الدعوة إلى الله هو دعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وبذلك نزلت الكتب أيضاً, قال -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)(الزمر:2) .
فالدعاة إلى الله ينبغى أن يكون هدفهم ان يقولوا للناس أنتم عباد الله, والله ربكم وإلهكم ولابد لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له، ونحن نعرفكم كيف تعبدوا الله كما أمرنا الله -سبحانه وتعالى-.
فعلى الدعاة إلى الله ان يعيدوا ترتيب أهدافهم من جديد، وليكن هدفهم الأول تعبيد الناس لله وهدايتهم من الضلالة وإنقاذهم من النار, فالداعية السائر على خطي الأنبياء المقتضي آثارهم جدير بأن يتذكر كل حين ويستشعر كل آن أن غاية دعوته ومنتهى قصده هو تعبيد الناس لله رب العالمين, وأن يعطى سائر أهدافه مكانها الطبيعى وحجمها المعقول, حينما لن يصبح داعية لنفسه ولا لتجميع الناس حول شخص او حتى حول اجتهاداته واقتناعاته .
الهدف الرابع
إقامة الحجة وقطع العذر
فمن أهداف الدعوة إقامة الحجة على الخلق بالبراهين الدافعة التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالأدلة العقلية التي تدل على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما جاء به من عند الله- سبحانه وتعالى-, قال الله -عز وجل-: (رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)(النساء:165).
قال الحافظ ابن كثير: "أى ان الله تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى لمعذرٍ عذر".
كما قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)(طه:134).
وكذا قوله: (وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)(القصص:47).
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها منها وما بطن, ولا أحد أحب إليه المدح من الله -عز وجل- ومن أجل ذلك مدح نفسه, ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين)
ومنذرين", وفي لفظ آخر: (من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه).
وذلك لأن من أهداف بعثة الرسل أن ينذروا الكافرين والمعاندين حتى لا يكون لهم عذر عند الله -تعالى- يوم القيامة, وأتباع الرسل يقومون بهذه المهمة بعد لحوق الرسل بربهم حتى لا يكون للمعاندين منهم حجة أمام الله -عز وجل- يوم القيامة فأتباع الرسول هم خلفاؤه في مهمته إلا النبوة والرسالة كما قال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)(يوسف:108).
والمدعو إما أن يستجيب للدعوة فيهتدى فيتحقق بذلك الهدف الأول من أهداف الدعوة وهو "تعبيد الناس لله", وإما أن تكون الحجة قد قامت عليه وانقطع عذره عند الله-تبارك وتعالى-.
وخلاصة هذا الهدف أن الداعي إلى الله إن لم يتحقق هدفه الأول ويهتدي من يدعوه إلى الله- تبارك وتعالى- فلا يظنن أن عمله قد ذهب سدي بل قد أدى واجبه الحقيقى وهو إقامة الحجة لله وقطع العذر عن هذا المعاند أمام ربه يوم القيامة.
وقيام الحجة يكون بالبيان الدائم لأصول الاسلام وفروعه بياناً لا يترك في الحق لبساً, ولا يبقى شبهته حتى ينقطع العذر ولا يكون لأحد العدول عن هذا الحق.
الهدف الخامس
الأعذار إلى الله بأداء الأمانة
لما كانت الدعوة إلى الله واجب وأمانة في عنق كل مسلم حمل علماً وأمكنه الله من نشره وإبلاغه كان ولابد أن يقوم المسلمون بأداء هذا الواجب وتخلية المسئولية أمام المولى -تبارك وتعالى- عن الذين وعظوا إخوانهم من بنى إسرائيل حيث اعتدوا على حرمة السبت محتالين على شرع الله (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163) (الأعراف164).
أي أنهم لن يرجعوا عن غيهم وضلالهم فقالوا: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا(164) (الأعراف:146), أي أنهم لن يرجعوا عن غيهم وضلالهم, فقالوا: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(الأعراف:146), أي نقوم بالدعوة إعذاراً إلى الله حتى نعذر عند الله بأننا قمنا بأداء الأمانة ثم لعل هؤلاء الذين آيستم منهم يرجعون إلى الله -سبحانه وتعالى- والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وهو -سبحانه- يهدي من يشاء ولو لهدى الناس جميعاً.
الهدف السادس
إصلاح البلاد والبعاد
قال الله -سبحانه وتعالى- عن شعيب أنه قال: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)( هود:88).
وقال -سبحانه وتعالى-: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)( هود:116).
والإصلاح يقتضي النهي عن الفساد في الأرض وهو تحقيق لما يحيه الله ويرضاه فــالله -عز وجل- لايحب الفسادويحب الصلاح, ولذلك شرع للخلق شرع يصلحهم , وهو مصلحة لهم يحقق لهم مصالحهم في الدنيا, ويدقع عنهم النقمة والعذاب في الدنيا والآخرة, ولا يستقيم لهم أمر إلا بشرع الله -عز وجل- والنهي عن الفساد في الأرض وعصمة للناس من عذاب الله فى العاجلة في الدنيا لأن الفساد ويوجب العقاب, قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ(59)(القصص:59).
وقال -تعالى-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59)(الكهف:59).
وكل ما نهى الله عنه فهو من الفساد في الأرض, وكل ما أمر الله به فهو من الصلاح, قال -تعالى-: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(90)( النحل:90).
وكل الرسل الذين أرسلهم الله نهوا أقوامهم عن الفساد والطغيان, وأمروهم بالصلاح والتقى فنوح -عليه السلام- نهى قومه عن الشرك بالله وعبادة الصالحين, وهو أعظم الفساد والشر ونهاهم عن صد المؤمنين عن سبيل الله واحتقارهم وازدرائهم وصالح -عليه السلام- نهاهم عن الإفساد في الأرض بالصد عن سبيل الله وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة, فقال لهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)(الأعراف:74).
وقال لهم: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)(الشعراء:151-152) .
وشعيب -عليه السلام- قال لقومه: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِين(80)(الأعراف:80) .
الأمر الخامس
كيف نعيد المجد الأول
لكي نعيد مجد أمتنا وعزة أجدادنا ونفوز في الدارين الدنيا والآخرة، ونحقق مراد الله منا,لابد من تطبيق المنهج الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وسار عليه حتى لقي ربه وحمله من بعده رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, فلم يبدلوا ولم يتوانوا بل حملوا هذه الرسالة بصدق, وأدوا بأمانة وبذلوا الغالي والنفيس فى سبيل تطبيق هذا المنهج السوي المستقيم على ظهر هذه الأرض, ومازال العدول من هذه الأمة يحملون على عاتقهم هم هذه الأمة فيبلغون رسالات ربهم ويحاولون جاهدين أن يسود هذا المنهج أرجاء المعمورة ليتحقق وعد الله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)( الصف:9).
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار, ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام, وذلاً يذل به الكفر) .
ولكن هذا الأمر لن يكون حتى يعود الناس إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهد الخلافة الراشدة كما قال مالك -رحمه الله -: (ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها وما لم يكن يومئذ ديناً فليس باليوم ديناً", وإنما صلح أول هذه الأمة بكتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم- وقد نبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن مجد هذه الأمة لن يعود إلا مع خلافة على منهاج النبوة وذلك فيما رواه أحمد عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة, ثم سكت) .
أي أن آخر الأمر للمسلمين بشرط أن يكون أمرهم على منهاج النبوة ولن يكون هذا إلا إذا تحققت أسبابه التي ربط بها النصر والتمكين في الأرض والنعيم في الأخرة.
كما فى قوله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)( النور:55).
, فهذاتمكين مرتب على شروط الإيمان والعمل الصالح وتحقيق التوحيد ونبذ الشرك والوثنية.
وقال -تعالى-(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)( إبراهيم13-14).
وعدهم الله -سبحانه وتعالى- بهلاك الظالمين وتمكينهم في الأرض بشرط خوفهم من الله -عز وجل-، ومن خاف من شيء اتقاه فهو تحقيق التقوى، والثاني الخوف من اليوم الأخر وهذا يقتضي العمل الصالح المنجي من المخوفات التي جعلها الله في الأخرة.
فإذا كان لابد من أسباب فتعالوا نعرض هذه الأسباب علنا نأخذ بها:
السبب الأول- العلم:
العلم يقوم به الدين, ويتحقق به منهج سيد المرسلين, ويرتفع به شأن الآخرين كما ارتفع به الأولين, فالعلم حياة القلوب من الجهل ومصباح البصائر في الظلم, به تبلغ منازل الأبرار ودرجات الأخيار, والتفكر فيه ومدراسته ترجح على كثير من النوافل, وصاحبه مبجل مكرم, قال الشافعى: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم, وعن الزهري: ما عبد الله بمثل الفقه .
وعن سعيد بن المسيب قال: ليست عبادة الله بالصوم والصلاة, ولكن بالفقه في دينهز يعني ليس أعظمها وأفضلها الصوم والصلاة بل الفقه.
ومن الآثار ما روي معاذ بن جبل أنه قال: تعلموا العلم فإن في تعلمه لله خشية, وطلبه عبادة, ومدارسته تسبيح, والبحث عنه جهاد, وتعليمه من لا يعلمه صدقة, وبذله لأهله قربة, وهو الأنيس في الوحدة والصاحب في الخلوة, والدليل على الدين, والصبر على البأساء والضراء, يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدي بهم أدلة في الخير تقتفى آثارهم وترمق أفعالهم, يبلغ العبد به منازل الأبرار والدرجات العلى, والتفكير فيه يعدل بالصيام, ومدارسته بالقيام, به يطاع الله -عز وجل- وبه يعبد وبه يوحد وبه يمجد وبه يتورع, وبه توصل الأرحام, وبه يعرف الحلال والحرام وهو إمام والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء .
وقال الحسن البصري: (لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم) أي: أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمة إلى حد الإنسانية.
وقال علي -رضى الله عنه- لكميل بن زياد: (ياكميل: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال, والعلم حاكم والمال محكوم عليه, والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق".
وقال نظماً:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ....... على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه....... والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعيش حياً به أبداً ........ الناس موتى وأهل العلم أحياء
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وقال لقمان لابنه: (يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء) .
والعلم قسمان: القسم الأول - فرض العين:
وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به, ككيفية الوضوء والصلاة ونحوهما, وأصل واجب الإسلام وما يتعلق به من معرفة قضايا التوحيد وما ينافيها من الشرك, والواجب من ذلك ما يتوقف أداء الواجب عليه غالباً دون ما يطرأ نادراص فإن وقع وجب التعلم حينئذ, وأما البيع والنكاح وشبههما مما لا يجب أصله فقال إمام الحرمين الجويني والغزالي وغيرهما: ويتعين على من أراده تعلم كيفيته وشرطه, وقيل لا يقال يتعين بل يقال: يحرم الإقدام عليه إلا بعد معرفة شرطه وهذه العبارة أصح وعبارتهما محمولة عليها وكذا يقال في صلاة النافلة يحرم التلبس بها على من لم يعرف كيفيتها ولا يقال يجب تعلم كيفيتها ويجب معرفة ما يحل وما يحرم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها مما لا غنى غالباً عنه وكذلك أحكام عشرة النساء إن كان له زوجة, وحقوق المماليك إن كان له مملوك ونحو ذلك.
ويجب على الآباء والأمهات تعليم اولادهن الصغار ما سيتعين عليهم بعد النلوغ فيعلمه الولي الطهارة والصلاة والصوم ونحو ذلك, ويعرفه تحريم الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر والكذب والغيبة وشبهها, ودليل ذلك قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)( التحريم:6) .
قال علي بن أبي طالب -رضى الله عنه-, ومجاهد وقتادة: (معناه علموهم ما ينجون به من النار), وثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضى الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
وأما علم القلب وهو معرفة اعمال القلوب من الحب والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والأمانة والانقياد الاستسلام وشبهها ومعرفة أمراض القلوب من الحسد والعجب والرياء وخلافه فقال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين, وقال غيره: إن رزق المكلف قلباً سليماً من هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك ولا يلزمه تعلم دواءها وإن لم يسلم نظر- إن تمكن من تطهير قلبه من ذلك بلا تعلم لزمه التطهر كما يلزمه ترك الزنا ونحوه من غير تعلم أدلة الترك وإن لم يتمكن من الترك إلا بتعلم العلم المذكور تعين حينئذ, والله أعلم.
القسم الثاني- فرض الكفاية:
وهو تحصيل ما لابد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومها والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف .
وأما ما ليس علماً شرعياً ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب وشبههما ففرض كفاية أيضاً نص عليه الغزالي, وأما الصنائع التي هي سبب قيام مصالح الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما فهي فرض كفاية أيضاً .
وفرض الكفاية المراد به تحصيل الشيء من المكلفين به أو بعضهم ويعم وجوبه جميع المخاطبين به فإن فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين, وإن قام به جمع تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب وغيره فإذا صلى على جنازة ثم جمع ثم جمع, فالكل يقع فرض كفاية ولو طبقوا كلهم على تركه أثم كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به بحيث ينسب إلى تقصير ولا يأثم من لم يتمكن لكونه غير أهل أو لعذر ولو اشتغل بالفقه ونحوه وظهرت نجابته فيه ورجى فلاحه وتبريزه فوجهان أحدهما: يتعين عليه الاستمرار لقلة من يحصل هذه المرتبة فينبغي ألا يضيع ما حصله وما هو بصدد تحصيله .
قال الإمام النووي: وأصحهما لا يتعين لأن الشروع لا يغير المشروع فيه عندنا إلا في الحج والعمرة ولو خلت البلدة من مُفْتٍ فقيل: يحرم المقام بها, والأصح لا يحرم إن أمكن الذهاب إلي مُفْتٍ وإذا قام بالفتوى إنسان في مكان سقط به فرض الكفاية إلى مسافة القصرمن كل جانب, واعلم ان للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين لأنه أسقط الحرج عن الأمة .
وقال الإمام الجويني في غيات الأمم: فرض الكفاية أفضل من فرض العين من حيث أن فاعله يسد مسد الأمة ويسقط الحرج عن الأمة وفرض العين قاصر عليه .
وكذا تعليم الطالبين وإفتاء المستفتين فرض كفاية فإن لم يكن هناك من يصلح إلا واحد تعين عليه ولما كان المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة .
أحدهما – أن يكون مجتهداً .
والثانى – أن يكون مقلداً صرفاً .
والثالث – أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين .
فالأول – المجتهد: وهو من آتاه الله – عز وجل – أدوات النظر المباشر في الكتاب والسنة .
من معرفة كتاب الله –عز وجل – الناسخ والمنسوخ والمحكم المتشابهوأسباب النزول ومعرفة تفسير كتاب الله –عز وجل -.
ومعرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الجرح والتعديل وعلم الرجال والناسخ والمنسوخ, فيه وأسباب ورود الحديث والمحكم والمتشابه والصحيح والسقيم.
ومعرفة علم أصول الفقه ومعرفة اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها ومعرفة الواقع الذي تطبق عليه أحكام الشريعة, وأن يكون ممن آتاه الله فطنة وذكاء يجعلهما الله – عز وجل –فيمن يأتمنه على دينه, وهؤلاء المجتهدون هم العلماء وهم حماة الدين وحراس العقيدة وهم الذين يقومون بالفتوى والقضاء وهم الذين يذبون عن دين الله -عز وجل- وينبغي أن لا يخلو منهم زمان وأن يكون في كل بلدة واحد منهم على الأقل يرجع إليه الناس فيما ينزل بهم من الأمور التي تحتاج إلى أحكام وهم الذين يكيفون النوازل ويضعون الحكم الشرعي المناسب لها بناء على معرفتهم بمواطن القياس والعلل والحكم الموجودة في الشرع الحنيف والأشباه والنظائر وعندهم إحاطة بنصوص الشريعة مما ييسر عليهم معرفة الأحكام, وعلى الأمة السعي الحثيث لإيجاد هذه الطائفة التي بها رقى الأمة وسموها وعلوها, فهؤلاء العلماء هم الأمن والأمان لسفينة الأمة الذين يجنبونها الغرق في مهاوي الردى فهم الذين يخلصون الدين مما علق به من شوائب البدع ومحدثات الأمور, ويردون شبه الزنادقة والمجرمين, وحاجة الناس إليهم أكثر من حاجتهم إلى الماء والهواء, فإن حاجة الناس إلى الماء والهواء لصحة الأبدان وحاجتهم إلى هؤلاء العلماء لصحة الجنان.
الثاني – المقلد الخالي من العلم: وهذا يحتاج إلى قائد يقوده وحاكم يحكم عليه, وعالم يقتدي به, ومعلوم أنه لا يقتدي به إلا من حيث هو عالم بالعلم, والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له أتباعه بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع عمله بأنه ليس من أهل ذلك الأمر, كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل, وإن كان كذلك فإنه إنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه لا من جهة كونه فلاناً.
وهذه الطائفة كثيرة في الأمة وتحتاج إلى إصلاح مع عدم استيعابها للدليل وعدم قدرتها على البحث والتمحيص مع كونها مكلفة بالعقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق, وهي تشكل القطاع الأكبر في الأمة فيجب السعي إصلاحها بتعليمها أحكام العقيدة وقضايا الإيمان والتوحيد وما ينافيها من قضايا الكفر والشرك وتصحيح عقائد هذه الطائفة وتحذيرها مما قد تقع فيه من أمور الشرك والوثنية سعياً وراء إيجاد أمة موحدة صحيحة العقيدة, وكذلك تصحيح عبادات هذه الطائفة بتعليمها العبادات الصحيحة مع تحذيرها من المبطلات التي قد تقع فيها وذلك لإيجاد أمة صحيحة العبادة, وكذلك تعليمها ما تحتاج إليه من قضايا المعاملات, وتصحيح معاملاتها في البيع والشراء والإجارة والنكاح وغيره, وتحذيرها من العقود الفاسدة والباطلة والمعاملات غير الصحيحة, وكذا تعليمها ما يحل لها وما يباح مع تحذيرها من المحرمات الواقعة فيها والمنتشرة في المجتمعات, وكذا تعليمها الأخلاق الحسنة وحثها على التحلي بها, وتحذيرها من الأخلاق الرذيلة وحثها على التخلي عنها.
وهذا يعرف بتعليم المسلم العامي ما لا يسع المسلم جهله لإيجاد أمة صحيحة العقيدة صحيحة العبادة المعاملة حسنة الخلق, وإن كانت هذه الطائفة لا تستوعب الدليل إلا أنها تقلد من تثق فيه من أهل العلم والتقوى والورع الذين يشهد لهم بالعلم والصلاح ممن له دراية بأمور الشريعة وهو عدل تقبل شهادته.
الثالث - المتبع: الذي لم يبلغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويفهم ترجيحات العلماء ومواطن اختلافهم وأسبابها فهذا لا ينبغي أن يقل قولاً أو حكماً أو فتوى بغير دليل مع نظره في الأدلة والعناية بها, وهذا معدود من أهل العلم وإن كان من طلبته لأن العلم معرفة القول بدليله, فقد أجمع المسلمون على أن المقلد ليس من أهل العلم وأن العلم معرفة القول بدليله. وهذا الصنف ينبغي العناية به وتكثيره في الأمة بحيث يعم النفع وتنتشر السنة, ويزول الجهل ويقل التقليد, ويقل الخلاف بين الأمة, وتقمع البدع والمحدثات.
السبب الثاني - التصفية:
ونعني بالتصفية تخليص الأحاديث النبوية الشريفة مما علق بها من أحاديث ضعيفة وموضوعة مما نسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يثب عنه أنه قاله أو فعله أو أقره -صلى الله عليه وسلم-, وكذلك تصفية التفاسير من الإسرائيليات والتأويلات الفاسدة والاستدلالات الباطلة, وكذلك تصفية العبادات مما لحق بها من بدع ومحدثات لم ينزل الله بها من سلطان, سواء كانت بدع مكفرة أو مفسقة أو بدع أصلية أو إضافية.
وكذلك تخليص العقائد مما علق شركيات وخزعبلات وذرائع مؤدية إلى الشرك, وكذلك تخليص قضايا الإيمان مما علق بها من أقوال المتكلمين والفلاسفة وأهل الإلحاد, وكذلك تصفية المعاملات من المعاملات الفاسدة التي وقعت فيها الأمة من جراء اختلاطها بالأمم الأخرى واستحسان طريقة أهل الكفر في المعاملات أو التشبه بهم.
وكذلك تخليص الأخلاق مما علق بها من أخلاق فاسدة نشأت عن مجاورة غير المسلين ومشاركتهم في عاداتهم والتشبه بهم وتقليدهم.
ولا يكون هذا إلا ببيان المعين الصافي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي ينبغي أن ننهل منه ولا يجوز لنا أن نقدم شيئاً بين يديه -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)(الحجرات:1).
السبب الثالث - التربية:
التربية هي عملية بناء المسلم شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى حد التمام وهو الحد الذي يصل فيه إلى أن يكون متمسكاً بكتاب الله وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ويحاسب نفسه بنفسه ويراقبها ويتابع تربية نفسه.
وهذه التربية ينبغي أن تكون وفق المعايير الشرعية.
والتربية المقصودة هي التربية الإيمانية والتربية العبادية والتربية على الأخلاق الحسنة كما جاء في سورة لقمان وفي نصيحة لقمان لابنه.
قال -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(لقمان:13-19).
فهذه الآية اشتملت على موضوع التربية.
الأمر الأول – التربية على التوحيد ونبذ الشرك وهي التربية الإيمانية (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)( لقمان:13).
الأمر الثاني - التربية على حسن المعاملة مع الناس، وعلى رأس ذلك قضية بر الوالدين (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14 )(لقمان:14).
الأمر الثالث - التربية على مراقبة والمحاسبة وهي أعلى مراتب الدين وهي قضية الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإنه يراك, (يا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16 )(لقمان:16).
أي أن الله يعلم ما دق وما خفي وأنه مطلع رقيب قد أحاط بكل شيء علماً, فلو كانت حبة الخردل التي مثل حبة الكمون تسبح في السموات أو تغوص في الأرض فإن الله يعلم مكانها وهو قادر على الإتيان بها فاحذر أن أعمالك كلها ما أخفيت وما أعلنت يعلمها الله ويراها.
الأمر الرابع - التربية العبادية بأداء الفرائض وإتباعها بالنوافل: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) (لقمان:17).
الأمر الخامس - التربية على الدعوة إلى الله -تعالى-: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17)(لقمان:17).
الأمر السادس - التربية على حسن الخلق: (ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(لقمان:17-19).
الأمر الأول - توحيد الله -تعالى-:
قال الإمام ابن القيم -رحمة الله عليه- في أحكام المولود، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله -سبحانه وتعالى- وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا ولهذا كان أحب الأسماء إلى الله:عبد الله وعبد الرحمن بحيث إذا وعى الطفل وعقل على أنه:عبد الله وأن الله سيده ومولاه.
وقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على ذلك منذ الصغر فقد أخرج الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:كنت خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك, تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك, واعلم أن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسرا ).
وعلى هذا ربى الصحابة -رضي الله عنهم- أبناءهم فقد روى الإمام أحمد عن الوليد بن عبادة قال:دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني فلما أجلسوه قال: يا بني أنك لن تطعم الإيمان ولن تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وما شره؟ قال:تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك, يا بني إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب, فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار .
وهذا يدل على أن أول ما يتربى عليه الشاب المسلم العقيدة الصحيحة وهي العقيدة التي مضى عليها سلف الأمة فقد جعل الله -عز وجل- عقيدة الصحابة هي المقياس للعقيدة الصحيحة, فقال -تعالى-: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)(البقرة:137).
وما أتى الأمر بالتوحيد في كتاب الله -عز وجل- أو في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مع مجموعة من الأوامر إلا كان الأمر بالتوحيد أول الأوامر. وما أتى النهي عن الشرك مع مجموعة من النواهي في كتاب الله -عز وجل- أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلا كان النهي عن الشرك هو أول النواهي, فما أمرت الرسل بشيء قبل التوحيد وما نهت عن شيء قبل الشرك، ولذلك كانت كل دعوة لا تهتم بأمر التوحيد ولا تربي أبناءها عليه فهي دعوة على غير هدي المرسلين, وعلم التوحيد هو علم العقيدة وهو الإيمان الذي ينتظم الأصول الستة التي أرسل الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ولذلك كان الموضوع الأساسي في القرآن الكريم هو التوحيد وكانت آيات القرآن تنزل في مكة المكرمة سنوات طويلة لتثبيت هذه العقيدة في القلوب والرد على المعاندين الذين انحرفوا عنها.
فمسؤولية التربية الإيمانية لدى المربين والآباء والأمهات مسئولية هامة وخطيرة لكونها منبع الفضائل ومبعث الكمالات, بل هي الركيزة الأساسية لدخول الإنسان في حظيرة الإيمان وقنطرة الإسلام, وبدون هذه التربية لا ينهض الولد بمسئولية ولا يتصف بأمانة, ولا يعرف غاية ولا يتحقق بمعنى الإنسانية الفاضلة ولا يعمل لمثل أعلى وهدف نبيل بل يعيش عيشة البهائم ليس له هم إلا أن يسد جوعته ويشبع غريزته وينطلق وراء الشهوات والملذات ويصاحب الأشقياء والمجرمين, عندئذ يوشك أن يكون من الزمرة الكافرة والفئة الإباحية الضالة الذين قال الله -سبحانه وتعالى- فيهم: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12 ) (محمد:12).
فعلى المربي أن لا يترك فرصة سانحة تمر إلا وزود المربى بالبراهين التي تدل على الله -سبحانه وتعالى- والإرشادات التي تثبت الإيمان وتقويه, وباللفتات التي تقوي منه جانب العقيدة كما كان هدي رسول لله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه كما مر بنا في توجيه لابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- فينبغي على القائمين بالدعوة إلى الله الذين يرجون عز الإسلام والمسلمين الاهتمام بتربية الناس على العقيدة الصحيحة والتنبيه الدائم لهم على ما يقعون فيه من أمور الشرك العلمية والعملية لأن هذا هو هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي ربى عليه الصحابة الكرام.
الأمر الثاني - التربية بالعبادة:
معلوم أن العبادات والقربات يرتفع بها معدل الإيمان ويزيد ويجد المرء حلاوة ذلك في قلبه ويصل الإنسان إلى درجة الولاية بكثرة العبادة والطاعة: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63 ) (يونس:62-63).
وقال -صلى الله عليه وسلم-, قال الله -تعالى-: (ما تقرب إلى عبدي بأحب إلى مما افترضه عليه,ولا يزال يقترب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن دعاني لأجيبنه ولئن سألني لأعطينه).
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)(البقرة:183).
وقال -تعالى-: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)(العنكبوت:45).
وقد ربى ربنا -سبحانه وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- على العبادة, فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا (5)(المزمل:1-5).
وأمر الله بتربية الزوجة على العبادة, فقال -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)(طه:132).
وأمر الوالد بتربية ابنه على ذلك, فقال -صلى الله عليه وسلم-: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليه لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع).
وذكرت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة (من كان أصبح صائماً فليتم صومه, ومن كان أصبح مفطرًا فليمسك بقية يومه), (فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم -إن شاء الله- ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها).
أي يتلهى بها حتى يأتي وقت الإفطار فهكذا كانوا يربون أبناءهم على العبادة منذ الصغر.
والعبادة هي سبب الفلاح في الدنيا والآخرة, قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)(المؤمنون:1-11).
وقال -تعالى-: (الذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)(المعارج:23-35).
والعبادة جالبة الخير في الدنيا والآخرة, قال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)(نوح:10-12).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).وقال -صلى الله عليه وسلم-: (نعم العبد عبد الله لو كان يقوم من الليل).
وقال -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)(البقرة:45).
وعن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: سل, فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله دلي على عمل يدخلني الجنة, قال: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له).
وكذلك فإن السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة إنما تكون بالعبادة, قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)(الحاقة: 19-24).
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)(العنكبوت:58).
وقال -تعالى-: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)(الإنسان:6-11).
واعلم عبد الله أن العبادة تعد مكملة لبناء العقيدة إذ العبادة تغذي العقيدة بروحها كما أنها المنعكس الذي يعكس صورة العقيدة ومجسمها ولكي يظل العبد يغرس العقيدة في النفس فلابد وأن يسقيها بماء العبادة بمختلف صورها وأشكالها, فبذلك تنمو العقيدة في الفؤاد وتترعرع وتثبت أمام عواصف الحياة وزعزعها, والعبادة لله تعالى في نفس المرء فعًلا عجيبًا فهي تشعره بالاتصال بالله تعالى وهي تهدئي من ثوراته النفسية وتلجم انفعالاته الغضبية فتجعله سويًا مستقيمًا.
الأمر الثالث – التربية الخلقية:
والمقصود بها تربية العباد على الأخلاق الفاضلة كالصدق والاستقامة والإيثار وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المربي الأول أكمل الناس خلقًا وكان خلقه القرآن وصدق الله -عز وجل- فقال في حقه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)(القلم:4).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ).
وقد اتصف -صلى الله عليه وسلم- بالأوصاف الخلقية المحمودة كالعلم, فقال -صلى الله عليه وسلم-: (والله إني لأعلمكم بالله).
والحلم فقد قال الله -عز وجل- في حقه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159 )(آل عمران:159).
وقد مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحب هذا الخلق فقال: (يا أشج أن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والتؤدة).
وكان -صلى الله عليه وسلم- أبغض الخلق إليه الكذب فكان يمزح ولا يقول إلا حقًا ومدح الصدق فقال -صلى الله عليه وسلم-: (وإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا).
وكان -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء من العذراء في خدرها.
وكان -صلى الله عليه وسلم- حسن العشرة. قال أنس -رضي الله عنه-: (خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لي شيء فعلته لم فعلت هذا ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان أحسن الناس خلقًا, وما مسست خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا شممت مسكًا ولا عطرًا أطيب من عرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).
وقالت خديجة -رضي الله عنها- عندما جاءها في أول بدء الوحي خائفًا: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا: إنك لتصل الرحم وتحمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقري الضيف, وتعين على النوائب.
وكان -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين ينزل عليه جبريل فيدارسه القرآن, فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينئذ أجود بالخير من الريح المرسلة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- متواضعًا فكان يقم البيت ويخصف نعله ويقضي حاجة أهلة, وكان ربما لقيته الجارية في بعض طرق المدينة فأخذت بيده فسارت به حيث شاءت.
وقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على حسن الخلق بما رغبهم فيه من الثواب وحثهم عليه, فقال -صلى الله عليه وسلم-: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث, وحفظ الأمانة, وحسن الخلق, وعفة مطعم).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (البر حسن الخلق ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقًا).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم خلقًا).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقًا وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم أن يدعو الله أن يحسن خلقه, فقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهم كما خلقي فحسن خلقي ).
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأخلاق السيئة فقال: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء ).
ومما لا شك فيه أن الفضائل الخلقية والسلوكية والوجدانية هي ثمرة من ثمرات الإيمان الراسخ والتنشئة الصحيحة فالإنسان حين ينشأ على الإيمان بالله ويتربى على الخشية منه والمراقبة له, والتوكل عليه والاستعانة به, والتسليم لجنابه, تصبح عنده الملكة الفطرية والاستجابة الوجدانية لتقبل كل فضيلة ومكرمة, والاعتياد على كل خلق فاضل كريم, لأن الوازع الديني الذي تأصل في ضميره والمراقبة الإلهية لبتي ترسخت في أعماق وجدانه, والمحاسبة النفسية التي سيطرت على تفكيره وإحساساته, كل ذلك بات حائًلا بينه وبين الصفات القبيحة والعادات الآثمة المرذولة والتقاليد الجاهلية الفاسدة, بل إقباله على الخير يصبح عادة من عاداته وتعشقه المكارم والفضائل يصير خلقًا أصيًلا من أبرز أخلاقه وصفاته, فهناك صلة وثيقة بين الإيمان والأخلاق, ورابطة متينة بين العقيدة والعمل فبغير إيمان بالله لا يتحقق إصلاح ولا يتقوم خلق.
فعلينا أن نتربى على القواعد التربوية والمناهج العملية التي وضعها الإسلام لسلامة الأخلاق وتنمية الشخصية المتميزة, وأن نتعود على الرجولة ومكارم الأخلاق, ونأخذ بتوجيهات الشرع الحنيف وإرشاداته حتى ننشأ على الفضائل الخلقية والمكارم الذاتية والآداب الاجتماعية, ونكون شامة في الناس, وليس هناك مبادىء تربوية مثل هذه المبادىء التي وضعها الإسلام وشرعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (9)(الإسراء:9).
وقال -تعالى-: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)(طه:123-124).
الأمر الرابع - التربية بالمراقبة:
وذلك أن نتربى على أن الله -سبحانه وتعالى- يرانا ويعلم سرنا ونجوانا, ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور, حتى تخلص النوايا ويستوي سرنا وعلانيتنا, وتتحقق العبودية الخالصة لله -تعالى-, قال -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)(البينة:5).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وقال -تعالى-: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)(العلق:14),
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)(النساء:1).
وسئل بعضهم عن قوله -تعالى-: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8((البينة:8). قال معناه لمن راقب ربه وحاسب نفسه وتزود لمعاده.
وسئل بعض الصالحين: بم ينال العبد الجنة؟ فقال بخمس: استقامة ليس فيها روغان, واجتهاد ليس معه سهو, ومراقبة الله في السر والعلانية, وانتظار الموت بالتأهب له, ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب وقد قيل:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل..... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة......... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهبًا...... وأن غدًا للناظرين قريب
والمراقبة هي ملاحظة الرقيب وانصراف الهم إليه ويعني بها حالة القلب يثمرها نوع من المعرفة وتثمر تلك الحالة أعماًلا في الجوارح وفي القلب: أما الحالة: فهي مراعاة القلب للرقيب وملاحظته إياه.
وأما المعرفة: فهو العلم بأن الله مطلع على الضمائر عالم بالسرائر رقيب على أعمال العباد قائم على كل نفس بما كسبت, وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف.
ثم للمراقب في أعماله نظرات: نظر قبل العمل, ونظر في العمل.
أما قبل العمل فلينظر إلى همه وحركته أهي لله خاصة أم لهوى النفس ومتابعة الشيطان فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق, فإن كان لله -تعالى- أمضاه إن كان لغير الله استيحا من الله وكف
عنه ثم لام نفسه على رغبته فيه وهمه به وميله إليه, وعرفها سوء فعلها وأنها عدوة نفسها.
وأما النظر الثاني للمراقبة منذ الشروع في العمل فذلك بتقديم كيفية العمل ليقضي حق الله فيه ويحسن النية في إتمامه ويتعاطاه على أكمل ما يمكن. وهذا ملازم له في جميع أحواله لأنه لا يخلو إما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح, فمراقبته في الطاعات بالإخلاص والإكمال وصراعات الأدب وحراسة النفس عن الآفات.
وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكير.
وإن كان مباح فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها, ولا يخلو العبد في جميع أحواله عن بلية لابد له من الصبر عليها, ونعمة لابد من الشكر عليها وكل ذلك من المراقبة.
الأمر الخامس - حسن المعاملة:
أمر الله -تعالى- بالعدل والإحسان جميعًا والعدل سبب النجاة وهو يجرى من التجارة مجرى سلامة رأس المال, والإحسان سبب الفوز ونيل السعادة وهو يجري من التجارة مجرى الربح, ولا يعد من العقلاء من قنع في معاملات الدنيا برأس ماله فكذا في معاملات الآخرة ولا ينبغي للمتدين أن يقتصر على العدل واجتناب الظلم ويدع أبواب الإحسان, قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)(النحل:90), وقال -تعالى-: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)(الأعراف:56).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا أشترى وإذا اقتضى ).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من أقرض دينارًا إلى أجل فله بكل يوم صدقة إلى أجله, فإذا حل الأجل فأنظره بعده فله بكل يوم مثل ذلك صدقة).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الناس إلى الله أنفعهم, وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل-: سرور تدخله على المسلم, أو تكشف عنه كربة, أو تقضي عنه دينًا, أو تطرد عنه جوعًا, ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهرًا, ومن كف غضبه ستر الله عورته, ومن كظم غيظًا ولو شاء أن يمضيه إمضاء ملأ الله قلبه رضي يوم القيامة, ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام, وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة, ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
ومما يقدم في حسن المعاملة بر الوالدين والإحسان إليهما, قال -سبحانه وتعالى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36)(النساء:36).
وقال -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)( الأحقاف:15).
ونهى الله -سبحانه وتعالى- عن إيذاءهما, فقال –تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24 ) (الإسراء:23-24).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر:الإشراك بالله وعقوق الوالدين) الحديث.
وكذلك حسن معاملة العلماء وأهل الفضل, قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه).
ومن ذلك مراعاة حق الأخوة, قال -صلى الله عليه وسلم-: (للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس وينصح له إذا غاب أو شهد).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه).
ومن ذلك حسن معاملة الجار وعدم إيذائه بأي طريقة من طرق الإيذاء, قال -صلى الله عليه وسلم-: (لقد أوصاني جبريل بالجار حتى ظننت أنه يورثه).
ومن ذلك الإحسان إلى اليتيم, قال -صلى الله عليه وسلم-: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما).
وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)(النساء:10).
وقال -تعالى-: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)(البقرة:220).
ومن ذلك الإحسان في البيع والشراء والإجارة والقضاء والناظرة وغيرها.
الأمر السادس - التربية على التزام الآداب الإسلامية الرفيعة:
قال -تعالى-: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)(لقمان:18-19).
فعلى المسلم أن يتربى على الآداب النبوية في المأكل والمشرب والنوم والدخول والخروج والصعود والنزول والملبس والكلام والنظر والسواك والسفر والحضر وطهوره وخلائه.
ففي الطعام, قال -صلى الله عليه وسلم-: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك).
وكان -صلى الله عليه وسلم-: (لا يعيب طعامًا قط).
وكان أحب الطعام إليه الذراع.
وفي الشراب: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الشراب قائمًا, وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد.
والنوم: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن, وكان إذا أخذ مضجعه من الليل قال: (بسم الله وضعت جنبي, اللهم اغفر لي ذنبي واخسأ شيطاني وفك رهاني وثقل ميزاني واجعلني في الندى الأعلى).
وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: (باسمك اللهم أحيا وباسمك أموت), وإذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور).
قضاء الحاجة: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة أبعد. وكان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. وكان إذا خرج من الغائط قال: (غفرانك).
الخروج من البيت والدخول: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من بيته, قال: (بسم الله توكلت على الله, اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نزل, أو نضل أو نضل, أو نظلم أو نظلم, أو نجهل أو يجهل علينا).
وكان إذا دخل بيته بدأ بالسواك.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله دخلنا, وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا, ثم يسلم على أهله).
الملبس: كان -صلى الله عليه وسلم- أحب الثياب إليه القميص.
وغيرها من الآداب التي تظهر السمت الحسن للمسلم وتبين محاسن هذا الدين الحنيف.
الأمر السابع - التربية على الدعوة والبلاغ:
لأن الدعوة إلى الله -تعالى- هي القطب الأعظم في الدين والأمر الذي ابتعثه الله له النبيين أجمعين, لو طوى بساطها وأهمل علمها وعملها لفشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد, فنعوذ بالله أن يندرس من هذا القطب عمله وعلمه أو ينمحي بالكلية رسمه وحقيقته وأن تستولي على القلوب مداهنة الخلق وتنمحي عنها مراقبة الخالق وأن يسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وأن يعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فلا معاذ إلا به ولا ملجأ إلا إليه.
قال -تعالى-: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17)(لقمان:17).
وقال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)(آل عمران:104).
وقال -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)(يوسف:108).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (بلغوا عني ولو آية).
وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير داعيًا إلى الله في المدينة.
وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري دعاة إلى الله -عز وجل- في اليمن.
وأرسل عمرو بن العاص داعيًا إلى الله في عمان.
وأرسل حاطب بن أبي بلتعة داعيًا إلى مصر.
ولقد كان المسلمون في عهده -صلى الله عليه وسلم- يعظمون هذا الواجب ويقومون به خير قيام, وفي عصرنا هذا صار الأمر أشد والخطر أعظم لانتشار الشرور والفساد وكثرة دعاة الباطل وقلة دعاة الخير, وبتحقيق هذا الواجب تصلح الأمة ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل, وتختفي منها الرذائل, ويتعاون أفرادها على الخير, ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله, ويأتون كل خير ويزرون كل شر بإضاعته. وبالغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة والشرور الكثيرة, وتفترق الأمة وتقسو القلوب أو تموت, وتظهر الرذائل وتنتشر, وتختفي الفضائل, ويهضم الحق, ويظهر صوت الباطل, وهذا أمر واقع في كل مكان ليس فيه دعوة إلى الله -تعالى-.
التعاون على البر والتقوى
إن من الأسباب المهمة والتي لابد منها لعودة الإسلام قويًا التعاون على البر والتقوى لأن الله –
عز وجل- أمر بذلك في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلَائِدَ وَلا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)(المائدة:2).
ولأن كثيرًا من فرائض الدين لا يمكن أن يقوم بها الأفراد ولأن الاعتماد على الإنجازات الفردية المتناثرة لا يؤدي فقط إلى إحباط مشروعات النهوض بالإسلام, وإنما يكرس أيضًا للنرجسية والذاتية والأنانية والافتتان بالأفراد وتقديسهم.
أمر من الله -تعالى- بأن يعين المسلمين بعضهم بعضًا وأن يتعاونوا على ما أمر الله تعالى به ويعلمون به, ولأن الله تعالى خاطب مجموع الأمة بالقيام بالواجبات, فلابد أن يكون هناك تعاون بين أفراد هذه الأمة, ولأن الانفرادية تؤدي إلى الضعف والشرذمة.
قال -تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)(الأنفال:46).
وقال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)(آل عمران:103).
ولأن مبدأ الشورى لا يكون بفرد لأن الفرد لا يشاور نفسه, وقد قال -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)(آل عمران:159).
وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)(الشورى:38).
ولأن الفروض الجماعية كصلاة الجمعة والعيد وصلاة الجماعة وأمر الدعوة والجهاد لا يمكن أن يتم بأفراد متناثرين وهذا يدعو إلى وحدة في المنهج وإخلاص لله وصدق في القيام بأمر هذا الدين.
فإن الدعوة إلى الله -عز وجل- والعمل لإعزاز دينه ورفع رايته أكبر من أن يقوم بها فرد أو أفراد متناثرون, فيجب على المسلمين التعاون والتضافر للقيام بالواجبات المفروضة على الأمة.
الخاتمة:
وبعد أيها القارئ الكريم فهذه رسالة في عجالة لم أرد أن استوعب فيها كل ما يتعلق بالدعوة من أصول وأسباب ووسائل ونتائج ولكن أردت أن أنبه على بعض النقاط المهمة التي لا يستغني عنها السالك في طريق الدعوة إلى الله -عز وجل-.
ولعلنا نستفيض في رسائل قادمة نشرح فيها هذا الإيجار ونفصل هذا الإجمال.
وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل عملي هذا خالصًا لواجهه الكريم وأن يثبتني على ذلك خير الثواب.
وصلِِّ اللهم على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.