كتبه/ محمد رجب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه إشارة موجزة تمهد لطالب الحق وتعينه على مقصوده من البحث والنظر، غير إنها لا تنفع صاحبها إلا مقرونة بورع وزهد؛ ورع عن اقتراف ما يخشى ضره يوم الحساب من فضول كلام وسبق لسان، وزهد في علو على الأقران ورؤية نفسه في حسن البيان، والله المستعان.
فاعلم -رحمك الله- أن: اضطراب تصور المتنازعَ عليه من أهم بواعث الخلاف ومثارات الشقاق؛ إذ يشهد كل فريق غير الذي يشهده الآخر، فيأتي كل من المتنازعين بكلام في غير محل النزاع.
ويترتب على هذا الاضطراب أمر أشد خطرًا؛ ذلك أن الباحث يتناول كلام الفريق الآخر حاكمًا عليه بما ثبت في تصوره لهذه المسألة، وكأنما صار قاعدة محكمة يقاضي إليها الأدلة، وهذه طريقة أهل البدع والأهواء؛ فإن أصل كل بدعة تقديم ما يتوهم إحكامه على أدلة الشرع، فيرد تلك الأدلة إلى رأيه وتصوره الموهوم، مخالفًا أمر الله -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء:59) ومفهومه: لا تقدموا آراءكم وظنونكم بين يدي نصوص الشرع المشرف، بل اجعلوا نصوص الوحي حاكمة قاضية، وهذا ليس في خلاف الفروع فحسب، بل هو آكد في أصول الدين وعقائده، إذ كانت نصوصه محكمة لا تقبل ما يحتمله استدلالية الفقه والفروع، من الظن والترجيح.
ولنضرب لذلك مثالا عمليًّا يستبين به الكلام: فقد رأينا من طلبة العلم -فضلاً عن عامة المتدينين- مَن لا يتصور المقصود من الإرجاء، بل صار اصطلاح الإرجاء إذا أطلق مشيرًا إلى عين المتنازع عليه، والذي لم يقطع فيه بعد بالبحث والنظر. فصورة الإرجاء في ذهن هؤلاء هي: عدم اعتبار جنس العمل من الإيمان بإزاء التصديق والإقرار سواءً بسواءٍ، وهي عين الصورة التي ينبغي أن يبحث فيها وينظر في كلام الفريقين قبل أن يصوب أو يخطئ أحد الرأيين.
والمقصود أن تصور المسألة المتنازع عليها -كالإرجاء هنا-: لابد أن يصح عند الناظرين في النزاع، وإلا فإن كثيرًا من النصوص والآثار سيحمل في الفهم على غير وجهه، وهذا ما نراه في مطالعة الأدلة والنقول في مثال الإرجاء؛ فإن السلف لما تكلموا عن مسمى الإيمان وحقيقته التي تشمل: التصديق والقول والعمل، إنما نشطوا فيه لبيان بدعية القول بأن الإيمان كل لا يتجزأ؛ إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهو بذلك حقيقة واحدة غير قابلة للتجزأ، فلا تقبل زيادة ولا نقصًا، وهذا أصل الإرجاء كما كان أصل الخوارج كذلك، غير أن تطبيق كل فرقة منهما اختلف عن الآخر، مع التزام ذلك الأصل مما استوجب بيان ضلاله؛ خاصة وقد ترتب على ذلك القول أثر خطير يغري بالانحلال من الشريعة، ويفضي إلى نقض الدين، أعني مقالتهم بأنه: "لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة"، فتارك الفرائض أو مرتكب الكبائر مؤمن كامل الإيمان، ناج من العذاب، غير معرض للعقوبة، وهذه المقالة الخبيثة كانت وليدة هذا الأصل الذي ذكرنا.
فالإرجاء حقيقةً مركب من هذين المتلازمين: أصل إنكار تجزأ الإيمان وقابليته للزيادة والنقصان، وما يلزمه من عدم تعرض تارك الأمر أو مرتكب النهي للعقاب.
ولعل الوقوف على هذا المعنى يجلي الفرق بين تلك المقالة وما ذهب إليه مرجئة الفقهاء: كالإمام أبي حنيفة -رحمه الله-، ويوجه تلك الإضافة إلى الفقه. ذلك أن أبا حنيفة -رحمه الله- لم يبنِ قوله بعدم دخول العمل في مسمى الإيمان على أصل المرجئة حيث قالوا بعدم تعدد الإيمان وتجزئته، وإنما جاءت شبهته -رحمه الله- من جهة الاستدلال الفقهي القائم على النظر في بعض النصوص، لا على تأصيل تلك القاعدة المتوهمة ومحاكمة النصوص إليها، وهذا فرق عظيم؛ ولذا لم يترتب على قوله ما ترتب على أصل الإرجاء، بل وافق -رحمه الله- قول عامة السلف في تعرض تارك الأمر ومرتكب النهي للعقوبة، ولذلك اعتبر كثير من المحققين -كشيخ الإسلام ابن تيمية- خلافه لفظيًا، وهذا من جهة ما ذكرنا، بمعنى أن خلافه في الاسم وليس في الحكم، وإلا فهو قول خطأ غير صواب.
ومما يحسن الإشارة إليه هنا: أن اعتبار مثل الإمام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ذلك الخلاف لفظيًّا يعني إقراره على الحكم، أي إنه إقرار بعدم مخالفة هذا القول لعقيدة السلف من جهة أحكام الآخرة، فالتصديق والإقرار مع ترك العمل غير موجب للنجاة من النار؛ وهذا قدر متفق عليه، إلا إن ثَمَّة تتمة لهذا القول لابد أن يتفق عليها كذلك؛ ألا وهي: أن التصديق المتضمن عمل القلب مع الإقرار باللسان موجب للنجاة من الخلود في النار، فهذا قول أبي حنيفة -رحمه الله- في باب الأحكام، وهذا لازم اعتبار ابن تيمية -رحمه الله- خلافه في الأسماء لا في الأحكام بغير تفصيل. والله أعلم.
والمقصود أنَّ نقول السلف لابد وأن تنظر من خلال تصور حقيقي للإرجاء على ما ذكرنا، وأن تنزل على باعث كلامهم؛ من تفنيد القول بوحدة الإيمان وعدم تجزأه، وعدم لزوم العمل في النجاة من النار. أما أن يحمل كلام السلف على لزوم العمل لدخول الجنة فتلك مسألة أخرى غير ما سيق الكلام لأجله، فدخول الجنة لا يعني النجاة من النار من أول وهلة، كما أن دخول النار لا يعني عدم دخول الجنة إلى الأبد، بل من كان معه أصل الإيمان خرج من النار ودخل الجنة يومًا من الدهر أصابه قبل هذا اليوم ما أصابه.
ومن ذلك ما ذكره بعض الباحثين عن الإمام الشافعي في مسألة الإيمان فقال: "الشافعي -رحمه الله- وإن لم يذهب لكفر تارك الصلاة لعدم ثبوت الإجماع عنده في المسألة؛ فهو من كبار أئمة السنة العارفين بمذاهب السلف؛ ولذا عصمه الله من مخالفتهم في كفر تارك العمل؛ حيث قال -رحمه الله- كما في "شرح أصول الاعتقاد للالكائي 5/886": وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" "كتاب أقوال ذوي العرفان في أن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان للدكتور عصام بن عبد الله السناني".
فهذا الكلام يبين لنا كيف يُنسب التناقض إلى فهم السلف بسبب تفسير نقولهم بحسب رؤية مسبقة، والإشكال أن هذه الرؤية هي عين المستدل عليه بهذه النقول. فإذا كان الشافعي -رحمه الله- يذهب إلى عدم كفر تارك الصلاة ولا غيرها من أعمال الجوارح، فكيف يكفِّر تاركها في الآخرة ويوجب خلوده في النار، فالذي أورث ذلك التناقض حملُ كلامه على رؤية مسبقة، وهي تفسير قوله: "لا يجزئ"، بمعنى: "لا ينجيه من الخلود في النار"، مع أن كلامه ينتظم ويتلاءم إذا ما حملناه على معنى: "لا ينجيه من دخول النار"، وهو التفسير الأليق بكلامه ومذهبه في كفر تارك الصلاة، كما أنه المناسب لما تقدم من توجه كلام السلف في ذلك الوقت إلى دحض بدعة القول بأن تارك العمل يجزيه إقراره في النجاة من النار؛ لا الخلود فيها.
وقد تقرر أن لكل مقال بساطَ حال، لا يتضح الكلام إلا بحمله على ذلك البساط، فانظر مثلاً إلى تكفير الإمام أحمد -رحمه الله- من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، مع قول كثير من الأئمة من بعد بالتفصيل -وهو الصواب-. فالنظر إلى مقالة الإمام أحمد مجردة عن بساط حالها يورث الإشكال؛ ولا إشكال عند معرفة بيئة مقالته وتوجيه كلامه لسد باب فتنة عظيمة لم يكد ينغلق من القول بخلق القرآن؛ فلما استقر الأمر لاعتقاد السنة ورُمَّت مقالات البدع والأهواء؛ تكلم العلماء بما كان السكوت عنه سدًا لذريعة تلك المقالات، وفصَّل الناس بعد الإجمال؛ وثوقًا ببساط الحال. فالحمد لله أولاً وآخرًا، والصلاة والسلام على خير الورى.