كتبه/ محمد رجب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الكلام على حكم ما يسمى: "عيد الأم" يعود معه كل عام مستكثرًا من أقلام مدادها العلم، وشعارها الانتساب للسنة، معظمها معارض مانع، وقلة ساعية للتجويز قاصدة التوسط.
وهذه نقاط مختصرة يُرجى بها إحكام مشتبه، وعقد منفرط، تتعلق بجنس المختـَرَع من الأعياد، متجاوزة ما تحته من الأفراد لم تأتِ على جهة التفصيل، ولكن لقصد التحرير والتأصيل؛ إذ وجهَتُها طلبة العلم، والذي أجزأ عن فضول البيان ثقة في الموهوب من الفهوم، وحسن ظن في محصول العلوم، عساها أن تكون إثراءً وزيادة، لا تكرارًا وإعادة -والله تعالى المستعان-.
أولاً: إن من ظواهر الشرع عند متدبريه اعتناءه بمواطن التعبد من المكلـَف، وإحراز أساسات التدين فيه؛ بحيث لا تتجه إلا بمراد الشرع، فلا تكون منفلتة بحسب الأغراض أو الأهواء، حتى ما خص صاحبها، فليس للعبد استعمالها في مراداته، بل استبد الشرع بها.
وأعظم تلك المواطن: القلب. وأعظم ما فيه من أساسات التدين: التعظيم والمحبة؛ فإحراز الشرع تعظيم القلب ومحبته مؤكد، وحراسته مما قد يقطع عليه تصريفه لازم.
وإنك لتجد الأعياد التي يتخذها الناس قائمة على الاحتفاء بها تعظيمًا ومحبة، فهما أصل ذلك وأسه، فلا يتصور إهماله أو إغفاله، ولا يُتوهم خروج العيد عن اختصاص الشرع إلى مواضعة الناس، بل هو من مهمات الدين، وشعائر العبادة، وهذا ظاهر في سنته -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه لما قَدِم -صلى الله عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما؛ قال: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟!). قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْر) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، فانظر إلى ذلك الاختصاص المكتنف بالاعتناء والتشريف في قوله: (أَبْدَلَكُمْ)، فما أجمل تلك الإضافة! وما أجل ذلك التركيب!
ثانيًا: وانظر قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا) (متفق عليه)، وتأمل لفظه المشرف -صلى الله عليه وسلم-؛ تجده أعطى العيد معنى لطيفًا، وأناط به أمرًا شريفًا، ذلك أنه صار مظهَرًا مميزًا لنا، أي: للأمة، بل بمنزلة النعت الذي لا يتحول، والذي يشي به حرف اللام في قوله: (لِكُلِّ)، فحذفُه في قوله: (عِيدُنَا)، ليتصلا بلا واسطة. وإذا كان الناس يتواضعون على أنظمة تحدد مواطنيها، وتشخص خصائص جنسياتها، فإن الشرع قد جعل لهذه الأمة جنسية الإسلام، وكأنما صار العيد أحد خصائصها، فتأمل.
ثالثًا: لا يصح تعليل المنع بلفظة "عيد"، حتى إذا ما استبدلنا بها لفظة "يوم" زال المنع؛ فإن العبرة بالمعاني لا المباني، وهل العيد إلا يوم ينتظر الناس عوده؛ لما فيه من خصوصٍ بسرور ونحوه؟!
رابعًا: الاشتغال ببعض العام من المستحبات ليس تخصيصًا له حكمًا، وإن صار دِيمةً لأمر من جهة المكلَف -كفراغ أو نشاط- جاز، لا من جهة التشريع -كعظم ثواب-، أو في توافق وائتمار حتى يصير في صورة الشعائر الجامعة -كصلاة العيد- فيمنع؛ فالشعائر العامة اختصاص الشرع، فلا تكون إلا من جهته، لا من جهة المكلَفين وإن تتابعوا عليها -والله أعلم-.
خامسًا: وقوع المشابهة بالكفار في خصائصهم كافٍ للمنع، ولو في غير قصد من الفاعل؛ سدًا للذريعة، وحراسة للدين، وحرزًا للمكلفين، وقد نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِـ"بُوَانَةَ" فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟). قَالُوا: لاَ. قَالَ: (هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟). قَالُوا: لاَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
فما أجاز له النبي -صلى الله عليه وسلم- الوفاء بنذره إلا مع أمن موافقة الجاهلية في شعائرهم، ولو صورة: مكانـًا أو زمانـًا؛ إذ لفظ الحديث مشعر بعدم قصد الناذر لما استفصله النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومما يلزم التنبه له: أن النهي الشرعي عن التشبه بالكفار متضمن طريقتهم وعادتهم الجُمْلية، وتلك سنتهم، ودخول ذلك أولى من فروع شرائعهم وشعائرهم، وقد عُلم ما هم عليه من الافتئات على الشرائع السماوية، واستبدالها بأنظمتهم الوضعية، ومن ذلك مواسمهم وأعيادهم، فإن أغلبها مخترع موضوع؛ أما النادر مما له بمِللِهم وُصْلة فمشوه محرف، والله -تعالى- أعلم.