السؤال:
هالني ما قرأت في موقعكم المتميز عن نجاسة الكحول، وحد علمي أن القول بنجاسة الكحول هو أمر الله بتحريم شربه، وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للصحابة بكسر آنيته والتي أظنها كانت لعدم وجود منظفات للتأكد مِن نظافة الأواني التي كانت تحتوي على الخمور كما أنها كانت تدعيمًا للناحية النفسية لقوم حديثي عهد بتحريم الخمر كي لا يعودوا لما نهوا عنه. وكلنا يعلم كأطباء وجراحين أن لا شيء يعادل الكحول في التطهير مِن الناحية الطبية، فما الدليل الشرعي في حال القول بنجاسة الكحول؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90)، وهذه الآية دليل ظاهر على نجاسة الخمر؛ فإن قيل: إنها نجاسة معنوية بدليل الإجماع على عدم نجاسة ورق الميسر، وكذا حجارة الأنصاب والأزلام؛ فالجواب: أن هذا التأويل في هذه الثلاثة دلَّ عليه الدليل وهو الإجماع، ويبقى اللفظ: (رِجْسٌ) على ظاهره في النجاسة الحسية والمعنوية في الخمر؛ لعدم الدليل الصارف، ويصح استعمال الاسم في حقيقته ومجازه على أصح الأقوال عند الأصوليين؛ خصوصًا في مثل هذا السياق كما يقول القائل: القلم أحد اللسانين.
والمذاهب الأربعة ومعهم الظاهرية على نجاسة الخمر نجاسة حسية ومعنوية.
وأما ما ذكرتَ مِن أنه لم تكن هناك منظفات للتأكد مِن نظافة الأواني؛ فكلام غير صحيح بالمرة؛ لأن الماء طـَهور، وهو إلى الآن كذلك؛ فأواني الخمر إذا غُسلتْ بالماء فقط حتى تزول عين الخمر جاز الأكل والشرب فيها، وإنما كسر أواني الخمر كنوع مِن سد الذرائع أو التعزير للممسك للخمر بعد نزول التحريم وعلمه بذلك.
وأما استعمال الكحول في الطب فهناك عشرات البدائل -دون مبالغة- تقوم مقامه في إزالة الميكروبات، بل وأفضل: "كالبيتادين، والسافلون، والفينول، والديتول"، وغير ذلك مما يعرفه أهل الطب والصيدلة، وأعلم أساتذة في الجراحة موفقون -بحمد الله- لا يستعملون الكحول نهائيًّا منهم أخي د."جمال الدين برهامي" أستاذ جراحة الوجه والفك والتجميل والأوعية الدموية والحروق، وهي مِن أدق الجراحات التي تحتاج إلى مطهرات.
ومِن الأدلة الشرعية كذلك في هذه الآية قوله -تعالى-: (فَاجْتَنِبُوهُ)؛ فلا بد مِن اجتنابه مطلقـًا شربًا ومسحًا في البدن والثوب؛ إلا فيما فيه إتلافه كحرقه أو إلقائه.
وأما ما احتج به المجوزون مِن أن الصحابة ألقوها في سكك المدينة؛ فالجواب: أن هذا يلزم منه القول بطهارة بول الكلاب والحمير؛ لأنهم كانوا يتركونها تبول في الطرقات، ثم إن الخمر سريعة الجفاف لسرعة تبخرها فليس فيها مفسدة البول والغائط في الطريق فافترق الأمر.
والقول بطهارة الخمر -"والكحول خمر قطعـًا؛ لأنه المادة المسببة للإسكار في الخمر"- معدود في الأقوال الشاذة عند جماهير العلماء، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يطرد القول بنجاسة الخمر حتى في الحشيشة اليابسة؛ فكل هذه المخدرات نجسة -جافة وسائلة- عند شيخ الإسلام -رحمه الله-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والحشيشة المصنوعة مِن ورق العنب حرام أيضًا، يُجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث مِن الخمر مِن جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك مِن الفساد، والخمر أخبث مِن جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة، وكلاهما يصد عن ذكر الله -تعالى- وعن الصلاة. وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد، حيث ظنها تغير العقل مِن غير طربٍ بمنزلة البنج. ولم نجد للعلماء المتقدمين فيها كلامًا، وليس كذلك، بل آكلوها ينشَون عنها ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر، وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة إذا أكثروا منها، مع ما فيها من المفاسد الأخرى مِن الدياثة والتخنث وفساد المزاج والعقل وغير ذلك، ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، فقيل: هي نجسة كالخمر المشروبة، وهذا هو الاعتبار الصحيح، وقيل: لا؛ لجمودها. وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها.
وبكل حال فهي داخلة فيما حرَّمه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- مِن الخمر والمسكر لفظـًا ومعنى. قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: البتع وهو مِن العسل ينبذ حتى يشتد، والمِزر وهو مِن الذرة والشعير حتى يشتد قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطي جوامع الكلم وخواتيمه فقال: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ) (متفق عليه)" ("السياسة الشرعية" - "مجموع الفتاوى 28/339").