كتبه/ علاء الدين عبد الهادي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زالوا يخدعوننا، وما زلنا ننخدع.
هذا ما يلخص حالنا وحالهم بأخصر عبارة وأجلاها بعيدًا عن الزيف والتدليس.
ولئن كانت كل أمة تسعى في سبيل نصرة عقيدتها -حقـًّا كانت أو باطلاً-؛ فلقد كان للغرب القائم على النصرانية طريقته الخاصة في ذلك خاصة حينما يكون الأمر متعلقـًا بالمسلمين، طريقة قوامها السيف تارة، والخداع والتمويه تارات أخرى.
ومن جملة ما يروجه نصارى الشرق والغرب وأذيالهم في ديارنا: فكرة التسامح والمحبة التي يتشدقون بها ليل نهار، وكيف أنها محور عقيدتهم، ولب دعوتهم، وهدف خطابهم التبشيري إلى الناس كافة.
هذه الفكرة الوهمية التي يصدقها كثير من الناس بفعل تأثيرهم الإعلامي المتنفذ في بلاد المسلمين، وما يرددونه على نحو مستمر بألسنتهم أمامنا -صراحة أو ضمنـًا- في خطابهم العلني وكتبهم ومقالاتهم، بل وصور الرهبان ذوي العيون الفاترة، هكذا جعلونا نعتقد ما يريدون لنا أن نعتقد عبر قنواتهم الثقافية التي يخترقون بها عقول الأمة.
إلا أنه ينبغي أن نعترف بأن تأثير خطابهم من الخارج يتضاءل أمام تأثير أتباعهم وحراس مصالحهم في الداخل، وفي كثير من الأحيان يكون هؤلاء الأتباع -الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا- أشد ملكية من الملك، فتجدهم يدافعون وينافحون عن "الآخر المغاير"، وعن الغرب والعقيدة النصرانية، ويذبون عنها، ويحمون حماها بما لا يحسنه أهل هذه العقيدة أنفسهم ولا يتقنونه، وفوق ذلك هم يمتلكون قدرًا يُحسدون عليه من فنون لَيِّ عنق النصوص الشرعية وتطويع الأدلة، وربما إعادة رواية التاريخ بما يتناسب مع رؤيتهم الساذجة على أحسن الأحوال، أو نواياهم الخبيثة في أغلبها.
ولم يعد مستغربًا -في ظل حالة التيه الذي تحياه أمتنا- أن يصبح قلب الحقائق مألوفـًا، فيزينون القبيح ويُشوهون الحسن، وأن يُروا الناس الباطل حقًّا والحق باطلاً، مفاهيم مقلوبة يدندنون بها على آذان الناس ليل نهار في إصرار عجيب حتى أضحت جزءً لا يتجزأ من التكوين الفكري -بل والعقدي- لدى المجتمعات الإسلامية، ينشأ الناس على هذه الأغاليط كبيرهم وصغيرهم حتى تصير عقيدة من العقائد لا يفتـَئـُون يربون عليها أبنائهم جيلاً بعد جيل، مصداق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ) قِيلَ: "وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟" قَالَ: (الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).
ولئن كان الجهل بحقيقة الأمور عارًا؛ فإن العار الأشد هو: المتاجرة بهذا الجهل، واستغلاله لأجل التطويع العقدي للمسلمين، والذي يُقدَّم مجاملة للغرب وتضامنـًا معه بواسطة بعض أعضاء "النخبة المثقفة" و"دعاة التقريب" وأصحاب دعوة "التعايش السلمي" و"فهم الآخر المغاير"، إلى آخر هذه القائمة التي مللناها وصولاً إلى أهل "حوار الأديان" ووحدتها!
والغريب أنه حين يكون الأمر متعلقـًا بأمن وثقافة "الآخر المغاير" فـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وحينما يتعلق الأمر بعقيدة المسلمين وصيانتها فتظهر هذه الدعوات كلها، وتعلو أصواتها مكتسية ثوب حكمة زائفة لا تروج إلا على منخدع.
وإن كان هذا هو موقف مثقفينا وقادتنا الفكريين فإنك تشعر بمدى الخذلان؛ حينما تتتبع -في المقابل- مواقف قادة النصارى شرقيهم وغربيهم، وحرصهم على ضرب الإسلام في كل مطعن تصريحًا أو تلميحًا، ولا مثال أدل على ذلك من مواقف بابا "روما" -رأس العقيدة الكاثوليكية- حينما نقل عن إمبراطور بيزنطي أقوالاً تصف ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه "شرير وغير إنساني، وأنه وطد أمره بالسيف"، في الوقت الذي يتظاهرون فيه بأنهم أصحاب دعوات الحوار والتسامح الإنساني، واحترام الأديان كافة!
أرادوا لنا أن نعلم أن رسالتهم هي: السلم والإخاء؛ لأنه في إنجيلهم: "لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن؛ فاعرض له الآخر"، بينما يقول قادتهم في المهجر: "إذا وضعنا بموضع الاعتداء الجماعي على حياتنا؛ فلندافع بكل ما تصل إليه أيدينا حتى أنبوبة بوتاجاز، أو زجاجات، مولوتوف، أو أعواد خشب، أو سواطير، أو حتى يد الهون حتى لا نموت فطيس مثل الدجاج!".
أرادوا لنا أن نعلم أن دعوتهم تتمثل في: "أحبو أعدائكم، باركوا لاعنيكم"، وأما الغرف المغلقة فيروجون لحديث آخر من مثل: "أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي"، ومثل: "وتحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتنهب بيوتهم، وتفضح نساؤهم".
وكأن مثل هذه النصوص وغيرها قد ألهمت النصارى عبر التاريخ، فالقوم الذين يتظاهرون اليوم بأنهم أصحاب دعوة التسامح هم من قاموا بالأمس -بفعل عقيدتهم- بفظائع ومذابح نكراء لمخالفيهم:
فمع المسلمين:
وفي "الأندلس" -على سبيل المثال- حدِّث ولا حرج عن "محاكم التفتيش" التي كانت تمتحن الناس على عقائدهم، وتحكم عليهم بأحكام غاية في الفظاعة، يكاد يطيش العقل من تصورها سجنًا وتعذيبًا وتشويهًا، بتفنن واستلذاذ لآلاف الضحايا "تطهيرًا" لهم من الهرطقة!
وفي "العصور الوسطى" زحفت جحافل الصليبيين مرة من بعد مرة في حملات كبيرة على "مصر" و"بيت المقدس" وديار "الشام"، وفي كل مرة كان المسلمون -بفضل الله- يفيقون ويجلوهم عن بلادهم، ولكن بعد أن يكون الصليبيون قد ذبحوا وقتلوا -باسم المسيح وهو منهم براء-، وعاثوا في الأرض فسادًا، وملأوا البلاد بلاء ووباء ورعبًا ودماء، وهم من جاءوا رافعين الصليب يحمون إخوانهم من نصارى الشرق، وليحرروا بيت المقدس من قبضة المسلمين، وفي بعض هذه الحملات ظلوا جاثمين على صدر بلاد الإسلام لعقود فعلوا فيها ما فعلوا من فظائع.
روى "ابن الأثير" في تاريخه عن دخول الصليبين للقدس في "الحروب الصليبـية" فقال: "مَلَك الفرنج "القدس" نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعًا يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بـ"محراب داود"، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، وقتـل الفرنج بـ"المسجد الأقصى" ما يزيد على سبعـين ألفـًا، منهم جماعة كبيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعبادهم وزهادهم ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف".
كما وصف "ستيفن رنسيمان" في كتابه "تاريخ الحروب الصليبية" ما حدث في "القدس" يوم دخلهـا الصليبيون فقال: "وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة "ريموند أجيل" في الضحى لزيارة ساحة المعبد؛ أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه، وتركت مذبحة "بيت المقدس" أثًرًا عميقـًا في جميع العالم، وليس معروفـًا بالضبط عدد ضحاياها، غير أنها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود، بل إن كثيرًا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث".
والوجه الحديث للحملات الصليبية هو: الاحتلال الذي نال بلاد الإسلام من شرقها إلى غربها إلا ما عصم الله من بلاد "الحجاز"، ولم يكن هذا الاحتلال؛ لاستغلال الثروات والموارد فحسب كما أردوا لنا أن نظن، بل لقد كان -أيضًا- مرتبطـًا بالكنيسة والدوافع الدينية بوضوح كما يذكر مؤرخوهم أنفسهم.
وقد صاحب -دائمًا- بعض القساوسة الاحتلال، وعلت أسماؤهم كأدوات للتجنيد وتعبئة الصفوف وشحذًا للهمم، وما زالت آثار أفعال بعضهم في بلاد المسلمين من رفع لشأن التعليم العلماني، والعمل على اضمحلال التعليم الديني شاخصة في حياتنا، بل لقد صدرت عدة كتب تتحدث عن ارتباط الاحتلال الحديث بالعقيدة النصرانية مثل: "الكتاب المقدس والاستعمار" للقس الفرنسي "مايكل بريور".
وفي ظل الاحتلال الحالي لبلاد الإسلام في "العراق"، و"أفغانستان" وغيرها يدرك المتتبع لتصريحات القوم أنها ما هي إلا "حرب صليبية" بمعنى الكلمة، غرضها: محاربة الإسلام والمسلمين.
بين النصارى:
وإن كان مثل هذه الجرائم تحدث وحدثت مع المسلمين فنحو من هذا -أيضًا- حدث بين النصارى أنفسهم؛ بسبب ما جرى بينهم من اختلاف في صلب العقيدة، وماهية المسيح -عليه السلام-, فكم من الفظائع التي فعلها "الكاثوليك" بـ"الأرثوذكس"، أو بـ"البروتستانت"، أو أصحاب التثليث بالموحدين منهم، بل مما لا يعلمه البعض أنه قد قامت بعض الحملات الصليبية قاصدة بعض الشعوب النصرانية التي لم يكونوا يعتقدون أنهم على الإيمان الصحيح, ولعله لا يخفى على أحد أنه حينما كانت السلطة المطلقة للكنيسة في "أوروبا" في "القرون الوسطى" -التي أسموها مظلمة- فكم من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك قد قـُتِلوا بصورة شنيعة؛ لأنهم اتهموا بالهرطقة حيث أثبتوا علميًّا أشياء ونظريات تعارضت مع خرافات الكنيسة.
ومن الجدير بالذكر أن كل هذه الفظائع والمذابح التي يندى لها جبين التاريخ لم ترتكب من آحاد الناس، بل قد ارتكبت باسم الدين ذاته، وبتأثير هذه العقيدة في أصحابها، وتحت سمع وبصر كبار الرهبان، بل بمشاركتهم وقيادتهم ومباركتهم لهذه الممارسات التي يبذلون جهدهم الآن؛ ليخفوها، ويستروا عوار عقيدتهم وفعالهم، ثم بعد ذلك يتحدثون إلينا من كل بوق، ويخرجون علينا في كل محفل ينسبون لأنفسهم وعقيدتهم التسامح والرحمة، ويتهمون الإسلام بأنه "شرير وغير إنساني، وأنه وطد أمره بالسيف"!
وقد وردت في كتبهم التي يقدسونها نصوص ظاهرها التعارض تدعو بعضها إلى السلم وترك العنف بالكلية، وبعضها يدعو للعنف والذبح، وعدم الشفقة.
فمثال على نصوص السلم -التي يحفظها كثير من المسلمين؛ لكثرة تردادها عليهم- ما ورد في إنجيل "متـَّى" إصحاح (5) حيث يعظ المسيح -في اعتقادهم- أتباعه قائلاً:
38- "سَمِعتُم أَنَّه قيل: "العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ".
39- "أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن؛ فاعرِضْ لهُ الآخَر".
40- "ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ؛ فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضًا".
41- "ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِدًا؛ فسِرْ معَه ميلَيْن".
42- "مَن سأَلَكَ؛ فأَعطِه، ومَنِ استَقرَضَكَ؛ فلا تُعرِضْ عنه".
43- "سَمِعتُم أَنَّه قِيل: "أَحْبِبْ قَريبَك، وأَبْغِضْ عَدُوَّك".
44- أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم، وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم".
ومثال نصوص العنف:
- متـَّى 10:34 "لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض. ما جئت لألقي سلامًا، بل سيفـًا".
- العدد 31:17 "فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال. وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها".
- حزقيال 9:6 "الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة، وابتدئوا من مقدسي. فابتدءوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت".
- صموئيل الأول 15:3 "فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرِّموا كل ما له ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة. طفلاً ورضيعًا. بقرًا وغنمًا. جملاً وحمارًا".
- يشوع 6:21 "وحرِّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
وغير ذلك مما هو مبثوث في كتبهم ويتدارسونه فيما بينهم، ويربون عليه النشء؛ ليغذوهم بالحقد والكراهية، ثم يخرجون علينا يظهرون المحبة.
ولئن كنا مأمورين بأن نصدق من كتبهم ما صدقه كتابنا، ونكذب ما كذبه، وأن نسكت عما سكت عنه؛ فإنه لا شك أنه على كل مسلم تنزيه الله أن يكون أنزل في وحيه شيئًا من الفساد الذي لا يحبه، أو الظلم الذي حرمه على نفسه وجعله بيننا محرمًا، وأين هذه النصوص من النصوص الإسلامية التي تأمر بالإحسان حتى في القتل، وإظهار الرحمة لمن لم يرفع في وجوهنا السلاح من شيخ كبير، أو امرأة ضعيفة، أو طفل بريء، أو راهب معتزل في صومعته؟!
أين هذا من شرع الجهاد؟!
سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
وما صحت نسبته من هذه النصوص التي ظاهرها التعارض فيمكن الجمع بينها بأن نصوص العفو والصفح إنما تطبق في وقت الاستضعاف، والنصوص التي تدعو إلى الشدة إنما تكون مع المعاندين والظلمة وقت التمكين.
ولا بد من الانتباه إلى أثر التحريف الذي حدث على أيدي اليهود لا سيما وهم أصحاب نفسية قابلة لأشد أنواع الاستعلاء والتكبر حال القوة، وفي نفس الوقت قابلة لأشد أنواع المذلة والاستكانة حال الضعف.
وإن كانت النفسية الأوروبية التي حملت ميراث "التوراة" و"الإنجيل" المحرفين لا تتقبل إلا الاستعلاء حال النصر، ولا بأس حينئذ بالاستدلال بالكتاب المقدس فيما يزعمون، وأما إذا قيل لهم في حال استبداد الولاة: "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر". قالوا: "اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس".
وبذلك تعرف أن الخد الأيسر لم يُمنح إلا لمن قدر على ضربهم على الأيمن، وأن هذه الضربات التي يتحملونها في زمان العسرة اضطرارًا تتحول إلى نيران حقد أعمى على البشرية جمعاء لا تبقي ولا تذر حال امتلاكهم لأسباب القوة.
فأخبرني بالله عليك هل وجدت في هذا التاريخ المظلم من خد أيسر؟!
أم أن كل ما هنالك أنهم ما زالوا يخدعوننا، وأننا ما زلنا ننخدع؟!