كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فالحمد لله الذي له غيب السموات والأرض، وإليه يُرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، جعل الدنيا في الآخرة كما يضع أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بمَ يرجع؟ يظن الناس إذا بعثوا يوم القيامة أنهم ما عاشوا فيها إلا ساعة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُم)(يونس:45).
واجتهاد الناس في تقدير مدة بقائهم في الدنيا لا تزيد على عشر ليالٍ (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا . نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا)(طه:103-104)، وقال -عز وجل-: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ . قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(المؤمنون:112-114)، وكذلك فترة البرزخ يظنها الناس ساعة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ . وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الروم:55-56).
فالدنيا سريعة الزوال، سريعة الذبول، لم تستقم لأحد على طريقة، تنكَّرت للملوك والرؤساء، وأسلمتهم بعد العز الظاهر إلى المرض والألم، ثم إلى سكرات الموت، ثم إلى حفرة من التراب، وأهانت أصحابها من أهل المال والجاه والصور الحسنة، وتركتهم وهم أحوج شيء إلى لذة وراحة في الألم والشقاء، والعجب أنها تكرم -راغبة- من يبتعد عنها، ويترفع عليها؛ استغناء بالله العلي الحميد، وطلباً لضرتها الأعظم شأناً والأطول أجلاً والأحسن عشرة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِىَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ) رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
وكما قال ابن القيم -رحمه الله-:
ولو تُبصر الدنيا وراء ستورها |
رأيتَ خيالاً في منام سَيُصرمُ |
كحلم بطيف زار في النوم |
وانقضى المنام وراح الطيف والصَبُّ مغرمُ |
ومزنة صيفٍ طاب منها مقيلها |
فولت سراعاً والحرورُ تضرَّمُ |
فجُزْها ممراً لا مقراً وكن |
غريباً تعش فيها حميداً وتسلمُ |
أو ابن سبيل قال في ظل دوحة |
وراح وخلَّى ظلها يتسقمُ |
فيا عجباً كم مصرع عطبوا به |
بنوها ولكن عن مصارعها عموا |
سقتهم بكأس الحب حتى إذا انتشوا |
سقتهم كؤوس السُمِّ والقوم قد ظموا |
وأعجب ما في العبد رؤية هذه العظائم |
منها وهو فيها متيَّمُ |
وأعجب من ذا أن أصحابها الألى تهين |
ولأعداء تراعي وتكرمُ |
وذلك برهان على أن قدرها |
جناح بعوضة أو أدق وألأَمُ |
نسأل الله أن يجعلها في قلوبنا كما هي لا تساوي جناح بعوضة، أن يجعل علاقتنا ببعضنا فيها له -عز وجل- لا تعلقاً بها، بل رغبة في تحقيق العبودية له وتكميلها، ومن ضمن ما يتعبد به لله -عز وجل- فيه التراحم؛ لأنه الرحمن، والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن ضمن ما يُتعبد به أيضاً له -سبحانه- حب رؤية العبادة من الأهل والولد (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)(الفرقان:74).
والفرق بين إرادة وجه الله في هذه الأمور وبين التعلق بها دنيوياً كشعرة أو أدق، وكحد السيف أو أحدّ، كما هو الصراط على جهنم يوم القيامة.
قال -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(العنكبوت:5-6)، فالدنيا ساعة، والمرجو لقاء الله، ما أسرع ما تنقضي الساعة! والله خير وأبقى، والله المستعان.
ثبَّت الله أقدامنا عليه، وجعل لنا نوراً عظيماً (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(التحريم:8)، وجعلنا من أول زمرة تمر عليه كلمح البصر... آمين.
ونسأله -عز وجل- أن يجعلنا ممن اصطنعهم لنفسه، ومن عباده المخلصين.