كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فيا أخي الحبيب: هذا شهر الغفران، فاحذر من أن تجعله شهر الخسران..
هذا شهر محو الذنوب، فاستغث إلى مولاك من العيوب.
هذه أيام الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة.
هذه أيام قال عنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.
هذه أيام خاب وخسر من أدركها، ولم يخرج منها مغفور الذنب.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
هذه أيام.. نزل من أجلها سيد الملائكة إلى سيد الخلق، ليشاركه الدعاء على من عاش هذه الأيام وخرج منها غير مغفور الذنب.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن جبريل عليه السلام أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين) رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
أخي: إذا جعلنا الكلام السابق نصب أعيننا وملئ قلوبنا، استشعرنا الحاجة الشديدة للفوز برمضان، وأن أول ما يجب أن نقدمه لذلك هو التوبة.
نعم.. فالتوبة هي بداية الطريق الصحيح للفوز برمضان.
أخي.. يحدثنا القرآن الكريم عن التوبة، فيقول الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ . اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر:53)، وإياك أن تظن أنك لست من المسرفين؛ وإلا كنت من الغافلين.
ويحدثنا النبي العدنان عن التوبة فيقول: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم.
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يوشك أن يسقط عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابة يهشها بيده هكذا.. ".
وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "جلست يوماً أحصي ذنوبي فإذا هي آلاف، فجعل يقول: يا سفيان تقف بين يدي الله فيسألك عن آلاف الذنوب؟ ماذا ستقول؟ والله ليسقطن لحم وجهك خجلاً وأنت تعرض قبائحك على الله... يا سفيان هذا ما تذكرته، فكيف بما أحصاه الله ونسيته أنت"؟!
فيا أخي... هل حاولت أن تجلس إلى نفسك وتتذكر ذنوبك التي فعلتها؟
هل حاولت أن تحدث توبة من قبل أن يأتي يوم قال ربك عنه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)(آل عمران:30)؟
أخي.. فلنسارع بالتوبة، وقد تأكدت في شهر التوبة.
أخي.. هيا قم إلى التوبة النصوح التي أمر الله بها: (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً)(التحريم:8).
ثم اعلم رحمني الله وإياك، أن للتوبة شروط ثلاثة لابد منها:
أولها: الندم.
ثانيها: الإقلاع على الذنب.
ثالثها: العزم على عدم العودة.
أخي... أحكي لك شيئاً من قصص التائبين إلى الله، وكيف صدقوا في توبتهم، فيسر الله لهم أسباب الفلاح والنجاة.
1- عابد بني إسرائيل:
جاء في الأثر أن رجلاً من بني إسرائيل، عبد الله عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة، فنظر يوماً إلى وجهه في المرآة، وقد رأى الشيب في رأسه، فقال: يا رب أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة.. أتراك تقبلني إذا عدت؟ فوجد أن جرمه شديد. فنام على تلك الحالة، فرأى في المنام من يناديه: "عبدي أطعتني فقربناك، ثم عصيتني فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك".
2- مالك بن دينار -رحمه الله-:
يقول مالك بن دينار -رحمه الله-، وهو من عباد التابعين: "بدأت حياتي فاسقاً فاجراً ظالماً، وكنت أعمل شرطياً أضرب الناس وآخذ منهم الحقوق، وأشرب الخمر. حتى تزوجت، فأنجبت طفلة سميتها فاطمة، وكلما كبرت فاطمة، كلما قل الشر في قلبي وكثر الخير. فلما بلغت ثلاث سنوات ماتت، فانقلبت إلى أسوأ مما كنت، ولم يكن عندي من صبر المؤمنين ما يصبرني، فعدت كأسوأ ما يكون، فقلت: لأشربن اليوم شراباً أسكر منه، فشربت وشربت حتى سقطت وأغمي علي. فرأيتني يوم القيامة أغرق في عرقي من شدة ذنوبي ثم سمعت المنادي ينادي: مالك بن دينار، هلم للعرض على الجبار.
فوجدت الخلائق تختفي، فليس في الأرض غيري، ثم رأيت ثعباناً عظيماً سميكاً يفتح فمه يجري خلفي يريد أن يلتهمني، فجريت والثعبان خلفي فرأيت شيخاً كبيراً، فقلت له: أنقذني من هذا الثعبان، فقال لي: أنا ضعيف لا أقدر، ولكن اجري في هذه الجهة، فجريت والثعبان خلفي، فرأيت النار أمامي فقلت: أنجو من الثعبان لأسقط في النار؟!
فعدت مسرعاً والثعبان خلفي يريد أن يلتهمني، فعدت إلى الشيخ الكبير وقلت: أدركني، فبكى وقال: أنا ضعيف لا أقدر، ولكن اجري في هذه الجهة، فجريت والثعبان يكاد أن يقتلني، فرأيت الأطفال يصيحون: يا فاطمة أدركي أباك.
فجاءت فاطمة فأخذتني بيمينها، ودفعت الثعبان بشمالها فمضى، ثم جلست في حجري كما كانت تفعل في الدنيا، وكل ذلك وأنا أرتعد.
فقلت: يا فاطمة، ما هذا الثعبان؟
قالت: هذا عملك السيئ، أنت سمنته حتى كاد أن يقتلك.
فقلت: ما هذا الشيخ الكبير الضعيف؟
قالت: هذا عملك الصالح، أضعفته فما عاد يستطيع أن ينقذك.
ثم قالت لي: يا أبتِ، (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)(الحديد:16).
فاستيقظت وأنا أصرخ وأقول: "قد آن يا رب.. قد آن يا رب.. قد آن يا رب".
أخي.. يا كثير المعاصي، ابك على ذنوبك الماضية، يا مبارزا بالقبائح أتصبر على الهاوية، أسفا لك إذا جاءك رمضان وما أنبت، وا حسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت، كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت؟! ألست الذي بارزت بالكبائر وما راقبت؟
فاللهم اجعلنا من التوابين، والحمد لله رب العالمين.