كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- في الإكليل في المتشابه والتأويل (ص 9-10): "فالجميع متفق على أنه لا يكلف المستضعف -الذي يشبه حاله حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمسلمين بمكة- ما لا طاقة له به مِن القتال" (انتهى).
وقال -رحمه الله-: "فمن كان مِن المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون" (الصارم المسلول:1/221).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) (الأنفال:61): "وقال ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة: أن الآية منسوخة بآية السيف في براءة: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) (التوبة:29)، وفيه نظر؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفًا؛ فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية؛ فلا منافاة، ولا نسخ، ولا تخصيص -والله أعلم-". (قلتُ: الصحيح أن كلام ابن عباس ومن وافقه محمول على التخصيص، ولا شك أن تخصيص نصوص سورة براءة بالقدرة والإمكان مجمع عليه، والصلح عند الضرورة والمصلحة).
قال القرطبي -رحمه الله-: "قال ابن العربي: قد قال الله -تعالى-: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) (آل عمران:139)، فإذا كان المسلمون على عزة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة؛ فلا صلح. وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح؛ لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه؛ فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، (قلتُ: الصحيح أنه إنما نقد صلح بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة في المدينة وأما أهل خيبر فلم يكن بينه صلح قبل فتحها، ولكنه صالحهم بعد فتحها على أن يعملوا في الزرع والشجر على النصف مما يخرج منها والمسلمين النصف ولم ينقضوه، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم إجلاءهم عند موته وصى المسلمين، فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وكان الصلح مع أهل خيبر مطلقًا بغير جزية ولا تحديد مدة، فكان صلحًا جائزًا، قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا) (متفق عليه)، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته).
وقد صالح الضمري، وأكيدر دومة، وأهل نجران، وقد هادن قريشًا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة" (انتهى كلام أبو بكر بن العربي، نقله عنه القرطبي في تفسيره، ينظر: تفسير القرطبي 8/40).
وقال الشافعي -رحمه الله-: "لا تجوز مهادنة المشركين أكثر مِن عشر سنين على ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية".
وقال ابن حبيب -من المالكية-: "تجوز مهادنتهم السنة، والسنتين، والثلاث، وإلى غير مدة..." (انتهى من تفسير القرطبي 8 /40-41).
قال ابن حجر -رحمه الله-: "قال الشافعي: إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم (أي: يعطيه المسلمون للكفار)؛ لأن القتل للمسلمين شهادة، وإن الإسلام أعزُّ مِن أن يُعطى المشركون على أن يكفوا عنهم؛ إلا في حالة مخالفة اصطلام المسلمين لكثرة العدو؛ لأن ذلك مِن معاني الضرورات، وكذلك لو أُسر رجل مسلم فلم يُطـْلق إلا بفدية؛ جاز" انتهى" (فتح الباري 6/276).
قال ابن قدامة -رحمه الله-: "لا تجوز المهادنة مطلقًا من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية... وقال: وتجوز مهادنتهم على غير مال، وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم؛ فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه، وهو مذهب الشافعي؛ لأن فيه صغارًا على المسلمين، وهذا محمول على غير حالة الضرورة، فأما إذا دعت إليه الضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر؛ فيجوز؛ ولأن بذل المال إن كان فيه صغار، فإنه يجوز تحمله؛ لدفع صغار أعظم منه، وهو القتل، والأسر، وسبي الذرية الذين يُفضي سبيهم إلى كفرهم" (انتهى من المغني 9/ 298).
وقال الشيباني -رحمه الله- في السير الكبير: "وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يوادعوهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالًا؛ فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة" (انتهى من شرح السير الكبير للسرخسي، ص 1692).