الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 24 يونيو 2025 - 28 ذو الحجة 1446هـ

تارك العمل الظاهر بغير جحود ولا إباء (1)

كتبه/ طلعت مرزوق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن قضية الإيمان والكفر من أهمِّ قضايا الاعتقاد، وهي أوَّلُ مسألةٍ وقع فيها الابتداعُ في الدين، ظهرت بسببها فِرقةُ الخوارج؛ الذين يُكفِّرون المسلمين؛ كما أنَّ البدعةَ المقابلةَ لها، وهي: الإرجاء، يُؤدِّي الغلوُّ فيها إلى الإباحيَّة والكُفر؛ إذ مبناها على إخراج العمل من الإيمان، فلا يضرُّ معه معصيةٌ -بزعمهم!-، وغُلاةُ المرجئةِ يستحلُّون تركَ الواجبات، وفعلَ المحرَّمات؛ نعوذُ باللهِ مِن كلِّ البدعِ والضلالات.

أمَّا قولُ البعض: (تركُ جنسِ العمل كُفر): فهو مِن الألفاظِ الموهمةِ غيرِ المحددة، والتي لم تردْ في كتابِ اللهِ -تعالى-، ولا في سُنَّةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتكلمْ بها السلفُ وأهلُ العلمِ مِن قبل!

وهذا القولُ يتضمَّن عدةَ صُوَر، منها ما يُحكمُ بكفرِ صاحبِه إجماعًا، وهي:

- تركُ كلِّ العملِ الظاهر بما يشملُ قولَ اللسانِ بشهادةِ التوحيد مع القُدرة.

- تركُ كلِّ العملِ الظاهر والباطن، بما يشملُ أعمالَ القلوب؛ لأنَّ أصلَ عملِ القلب جزءٌ مِن أصلِ الإيمان.

تركُ كلِّ العمل، بما يشملُ الفعلَ والتَّركَ، لشموله تركَ نواقضِ الإسلام، وتركُ التَّركِ فعلٌ، كما قال -تعالى-: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: 63)، (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 79).

وهذه الصورُ الثلاثة خالف فيها المرجئةُ أهلَ السُّنَّة.

ومنها ما هو محلُّ خلافٍ سائغ، وصورتُه:

- تركُ العملِ الظاهر، باعتبارِ دخولِ المباني الأربعة (الصلاة - الزكاة - الصوم - الحج) في أعمالِ الجوارح.

- ومنها ما هو بدعةٌ مُحدَثة، وهي: تكفير تاركِ جنسِ العمل -كلِّ الأعمالِ الواجبة-، بما لا يشملُ قولَ اللسانِ بشهادةِ التوحيد، ولا أصلَ أعمالِ القلوب، ولا تركَ النواقض، ولا باعتبارِ دخولِ المباني الأربعة.

- تاركِ جنسِ الشعائر -كلِّ شعائرِ الإسلام-؛ لعدمِ تلازمِ الباطنِ والظاهر، وقد غفلوا عن أنَّ شهادةَ التوحيدِ أكبرُ شعائرِ الإسلام.

- تاركِ جنسِ كلِّ عملٍ واجب (عيني)، وهذا القولُ شبيهٌ بقولِ الخوارج؛ قالوا: لعدمِ تصورِ وجودِ التصديقِ والانقيادِ مع عدمِ العملِ به أبدًا. والصحيحُ: إمكانُ وجودِ أصلِ التصديقِ والانقياد، ولكن لضعفِهما لا يُثمرانِ عملَ الجوارح.

أما قولُ العلماء: "لا إيمانَ بلا إسلام"؛ فالمقصودُ بما فيه مِن نُطقِ شهادةِ التوحيد مع القُدرة، وفي الحديثِ المتفقِ عليه: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، شُعْبَةً؛ فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ: لَا إِلَ?هَ إِلَّا اللَّهُ...)، وجُعلَ هذا الإيمانُ (قَوْلُ: لَا إِلَ?هَ إِلَّا اللَّهُ) عملًا عندما سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: (إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (متفق عليه).

ولا إسلامَ على الحقيقة -لا في الظاهر- بلا إيمان، أي: بلا وجودِ أصلِ أعمالِ القلوب.

والتلازمُ بين الإيمانِ الواجب، وبين العملِ الواجب، لا نزاعَ فيه: أما ادعاءُ التلازمِ بين أصلِ الإيمان والعملِ الواجب؛ فهذا قولُ الخوارجِ في الجملة؛ فالإيمانُ الواجبُ قد يزولُ ويبقى أصلُه، مع عدمِ العملِ الواجب أو فعلِ المحرَّمات من غيرِ النواقض، فالعملُ الظاهرُ ركنٌ في الإيمانِ الواجب؛ أما عدمُ تصورِ أصلِ الإيمانِ بلا عملٍ (والعملُ يشملُ الواجبَ، والمستحبَّ، والتَّركَ)، فهذا هو قولُ الخوارج الذين يقولون: لا نتصورُ من يُصدِّق أنَّ الزنا حرامٌ ثم يزني... وهكذا في كلِّ الأعمالِ الواجبة وتركِ المحرَّمات.

والعلماءُ المتقدِّمونَ تكلَّموا عن "العمل"، ولم يقولوا "جنْسه"، والمستحدثُ في المسألةِ هو: ادعاءُ اشتراطِ أو ركنيَّةِ شيءٍ من الأعمالِ الظاهرة -غيرِ الشهادة- في أصلِ الإيمان.

ونكمل في المقال القادم -بإذن الله-.