الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 02 يونيو 2025 - 6 ذو الحجة 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (214) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (10)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).

في قوله -تعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى) دليل على دور الشباب العظيم في الدعوة إلى الله، وكان الشباب هم أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وكذلك كان الذرية أتباع موسى -عليه السلام- كما قال -تعالى-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (يونس: 83)، أي: الشباب، وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دُعاة إلى الله -عز وجل-، وطُلاب علم عاملين بالحق، نافعين لأُمتهم، يقومون بالحق، ويجهرون به، ويدعون إلى الله -عز وجل-، ويُضَحُّون في سبيل الله -عز وجل-.

(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ): أي: على مشهدٍ مِن الناس.

عقدوا له محاكمة هي في الحقيقة مُحاكمة ظالمة جائرة، لكنهم يزعمون التثبت، (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ): وهذا تعريض فإن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وإلا فإنهم لا ينطقون، قال -عز وجل-: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وحماية.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي: أطرقوا وقد انقلبت عقولهم، وقد فهموا ما أراد إبراهيم -عليه السلام-، ووعوا الدرس جيدًا، وعلموا أنه أراد أن يُرشدهم إلى عجزهم عن النطق؛ فضلًا عن غيره، ومع ذلك انتكسوا ولم يقبلوا الحق الذي ظهر من أنها لا تصلح أن تُعبد، ولا تصلح أن تكون آلهة، قال -عز وجل-:  (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ): أنت تفهم ونحن نفهم أنها أصنام، ولا تستطيع شيئًا، (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ): تأمل غضبه لله -عز وجل- تلك الغضبة التي ظهرت في هذه الكلمات في التأفف منهم في بيان باطلهم، والغضب لما يعبدون من دون الله، والبغضاء والكراهية لهذه العبادة الباطلة.

(أَفَلَا تَعْقِلُونَ): إبراهيم -عليه السلام- الأسوة الحسنة في الصبر على البلاء، وصدر الحكم الجائر، فقد ثبت أن إبراهيم -عليه السلام- يكره عبادة الأصنام، ولا يُقرها فيصدر الحكم الجائر.

(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ): أَوْقَدُوا نارًا عظيمة نَذَرُوا لها النذور، وجمعوا لها الحطب حتى أَوْقَدُوها بما لا يستطيعون الاقتراب منها، وجعلوه في المنجنيق؛ ليرموه مِنْ بعيد، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) (الصافات: 97)، أي: في النار، وكان الأمر من الله -عز وجل- أسبق مِنْ أمرهم، وأعظم مِنْ أمرهم، وأعلى مِنْ أمرهم.

وأراد الله -عز وجل- أن يجعل إبراهيم -عليه السلام- الأُسوة الحسنة والمثل والقدوة لكل الدعاة إلى الله، على ما يُصيبهم في سبيل الله في توكله على الله -عز وجل-: فإبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النار قال: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، ولم يتوكل على غير الله، ولم يُفوِّض أمره إلى غير الله، ولم يأته الفرج مِنْ أول الابتلاء، بل ظل الابتلاء مدة، وحُبِسَ إبراهيم -عليه السلام- مدة، وأُلقي مُقيدًا بالمنجنيق، وضُرب المنجنيق لينطلق إبراهيم -عليه السلام- في الهواء فيقول: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وفي آخر لحظة يأتي الفرج: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ).

فإذا حُبِسْتَ فتذكر حبس إبراهيم -عليه السلام-، وإذا قُيدت فتذكر قيد إبراهيم -عليه السلام-، وإذا هُددت فتذكر ما هَدد به القومُ إبراهيمَ -عليه السلام-، وتذكر توكل إبراهيم -عليه السلام-، وحُسن تفويضه إلى الله -عز وجل-، وتوكل على الله مِن قلبك مع لسانك: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".

تحولت النار -بإذن الله وفضله ونعمته- بردًا وسلامًا على إبراهيم؛ فأحرقت وثاقه، وما ضره شيء من ذلك، وتعجبوا حتى قال له أبوه -فيما يذكرون-: "نِعم الرب ربك يا إبراهيم! ذلك أنه فعل به ذلك"؛ نَجَّاهُ من النار، وكانت أيامًا من أحسن الأيام قضاها في وسط الجحيم -كما زعموا-، وهكذا المؤمن يظن الناسُ أنه مُعَذَّبٌ وهو في الحقيقة مُنَعَّمٌ، بفضل الله ونعمته ورحمته، رغم ما يراه الناس حوله من ألوان الجحيم والعذاب.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.