الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 26 مايو 2025 - 28 ذو القعدة 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (213) تحطيم إبراهيم صلى الله عليه وسلم للأصنام وإنجاء الله له من النار (9)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ . قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ . فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ . قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ . قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ . قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ . قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ . قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ . فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ . قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ . أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ . وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 51-73).

الفائدة الحادية عشرة:

دَلَّ قوله -سبحانه وتعالى- عن قوم إبراهيم: (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) على أنهم يعرفون أن الأصنام لم تصنع شيئًا، ومع ذلك يسمونها: آلهة! ويجعلون مَن فعل بها ذلك ظالمًا؛ كما يصنع عُبَّاد البقر في زماننا، ويسومون مَن تحت أيديهم من المسلمين سوء العذاب إذا صنعوا شيئًا ببقرة! فهذا العجب الذي يقع فيه كثيرٌ من البشر من عُبَّاد الأوثان كمن يعبدون تماثيل بوذا أو من يعبدون البقر والفئران، أو يكذبون الرسل الكرام وخاتمهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ثم يرون من صدقه واتبعه، وعمل بما أمر به ظالمًا، ومن كفر بما هم عليه من الشرك والكفر، وعبادة غير الله؛ يجعلون من كفر بذلك ظالمًا!

كان بعض قوم إبراهيم قد سمع إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسرعان ما أرشدهم إلى ما يبحثون عنه: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)؛ فهذه الأمور غالبًا لا تخفى، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- ما كان يقصد الاختفاء أو عدم إعلان دعوة التوحيد، وإنما صنع ذلك وهو يريد أن يقيم عليهم الحجة؛ فلا يتصور في هذه الأمور أن تختفي، وإنما الغرض منها إقامة الحجة ببيانها أمام الناس، وإنما الذي يتصور أن يُخفَى: خطط المعارك والهجرة، والتخطيط لمستقبل البلاد، ونحو ذلك؛ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل في حروبه وغزواته، وفي هجرته كذلك، لكن أن يُتصوَّر أن دعوة التوحيد يمكن أن لا تُعلَن؛ هذا لا يصح. يمكن أن يبدأ بها في بعض الأصدقاء والمقربين في البداية، ولكن يستحيل أن تستمر سرًّا، وإنما جاءت لهداية العالمين، وفي قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فائدة عظيمة في أهمية دور الشباب في الدعوة إلى الله، وهي:

المسألة الثانية عشرة:

(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى) أي: شابًا، وهذا دليل على أن الشباب عليهم دور عظيم في الدعوة إلى الله، وأن مقام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو فتى شاب يدعو إلى الله، ويكسر الأصنام، ويقيم الحجة، ويضحي بنفسه في سبيل الله والأسوة الحسنة لهم في هذه الحياة، وليس يصح أن يكون أسوة للشباب المسلم لاعبو الكرة، أو الممثلون والممثلات، أو المغنيون والمغنيات، نسأل الله أن يعافي المسلمين وشباب المسلمين.

فالشباب هم كانوا أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كانت الذرية أتباع موسى -صلى الله عليه وسلم-؛ كما قال -تعالى-: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (يونس: 83) أي: الشباب. وهكذا فليكن كل شباب المسلمين دعاة إلى الله، وطُلَّاب علم عاملين بالحق، نافعين لأمتهم؛ يقومون بالحق، ويجهرون به، ويدعون إلى الله، ويضحون في سبيل الله.

الفائدة الثالثة عشرة:

قوله -تعالى-: (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ): أي على مشهد من الناس؛ عقدوا له محاكمة، هي في الحقيقة محاكمة ظالمة جائرة، لكنهم يزعمون التثبت بقولهم: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ

فهم يظهرون العدالة الوهمية التي ليست إلا صورة من صور الظلم العدوان!

ما التهمة الحقيقية لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أنه أراد أن يخرج عن جهالات هذا المجتمع، وضلالات هؤلاء الكبراء؛ الذين أرادوا أن يظل الناس كلهم في ظلمات الجهل والشرك -والعياذ بالله-؟!

وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يقر أنه فعل ما يتهمونه به، وإنما عَرَّض في الكلام (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، وهذا -على أصح الأقوال- معناه: إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم؛ وإلا فإنهم لا ينطقون، فلا يلزم أن يكون إبراهيم قد نَسَب إلى الكبير فعل ذلك؛ لأنه معلق على شرط لم يوجد، هو شرط النطق؛ فإذا فقد شرط النطق لم يكن كبيرهم قد فعله، ولم يكن إبراهيم قد أقر على نفسه بارتكاب تحطيم الأصنام، فحصل المقصود من إثبات عجز الآلهة حتى أن تدفع عن نفسها، وهذا ينفي ربوبيتها وألوهيتها، ولم يُثبِت إبراهيم على نفسه ما اتهموه به.

قال -سبحانه-: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)؛ إذ تركتم الأوثان دون حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة، وهي تحتاج إلى حراسة وعناية!

فتبًّا لهذه العقول الظالمة الجائرة التي تكون خَدَمًا وتابعة لهذه الأصنام في نفس الوقت الذي تعبدها؛ فهي تعظمها وتعبدها من دون الله، وفي نفس الوقت ترى وجوب حمايتها عليهم؛ كما قال -تعالى- في ذَمِّ قريش: (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (يس: 75)، أي: هم لأصنامهم جنود محضرون عندها؛ للدفاع عنها، كيف زالت العقول إلى هذا الحد؟! إلى الله المشتكى.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.