كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- في حقبة سابقة، كان الناس يتعلمون معاني الالتزام في المساجد، فيُصلُّون الصلوات الخمس، ثم يحضرون الدروس، فيتعلمون العلم ويخالطون طلبة العلم والعلماء والصالحين المصلحين، فإن المساجد مَهْوَى قلوب الصالحين والتائبين، وخيرة المجتمع.
- فمن التزم بالمسجد، كانت معاني الالتزام في قلبه أرسخ، فيتغير ظاهره وباطنه، ويجد على الخير أعوانًا، ويجد أمامه القدوة الحية، والناصح الأمين، فيتخلى عن أدرانه ويتحلى بمعاني الالتزام معنًا بعد آخر، وكأنما يُبنَى الالتزام في قلبه لبنة لبنة، فيكون حصنًا له وحصنًا للمجتمع من حوله، فإن المستقيم حق الاستقامة يأمن المجتمع منه وبه.
- ثم ظهرت شرائط الكاسيت، والتي ساهمت في انتشار أوسع لمعاني الالتزام، نقلت شرائط الكاسيت الدرس من المسجد لجمهور آخر بالبيت، ولكن ظل للدرس في المسجد مذاقه وطعمه الخاص وأثره، وكانت معظم المساجد تحتوي على مكتبة الشرائط الخاصة بها، والتي تعرضها للاستعارة، ساهمت الشرائط في زيادة أعداد الملتزمين مع المحافظة على جودة الالتزام نوعًا ما، لحفاظ الناس على علاقتهم بالمساجد.
- وبعد عام 2005م تقريبًا، سُمِح للفضائيات الإسلامية بالبث، فانتشرت انتشارًا واسعًا وساهمت في انتشار مظاهر الالتزام انتشارًا واسعًا كذلك، فقد دخلت كل بيت، والتي كان يغلب على برامجها الحديث حول الأخلاق والآداب والسير والوعظ، وتجنبت إلى حد كبير كثيرًا من القضايا التي قد تسبب لها مشاكل أو يكون لها تبعات تمنع بثها!
- وكان من ثمار دخول القنوات الفضائية الإسلامية البيوت: انتشار معاني الالتزام، والهدي الظاهر مِن انتشار الحجاب واللحية، والآداب الإسلامية، وإن كان من التزم عن طريق الفضائيات لم ينل نصيبًا وافيًا من العلم الحقيقي من دراسة الفقه والعقيدة، أو الاستماع لقضايا الفكر الإسلامي، والتي ترسم ملامح منهج أهل السنة، وكذلك لم ينل حظًا وافيًا من مخالطة المربين والاحتكاك المباشر مع أهل العلم وطلبته والصالحين المصلحين، الذين ينقلون الهدي الظاهر مع غرس معاني الالتزام الحقيقي في النفوس، الناصحين الأمناء، القادرين على إرشاد المتنسكين لآفات القلوب وعلل النفوس، والمعونة على تجنبها؛ فظهرت شريحة واسعة محبة للتدين، ولكن يربطها به كثير من العاطفة، قليل من الفهم والعلم.
- تلك الشريحة التي تلاعبت بها الأحداث بعد 2011م، وصارت مطمعًا لكل صاحب فكر منحرف يُحسِن إثارة تلك العاطفة والتلاعب بأصحابها، ويجعلهم وقودًا لمعاركه الخاسرة؛ تلك الشريحة التي تحوَّلَت بسهولة من المنهج السلفي -الذي كانت تنتمي له بالعاطفة فقط- إلى المنهج الثوري؛ لما رأت أن الثورة أطاحت بمبارك، ثم تحوَّلَت بسهولة إلى "حازمون"؛ لما خاطب حازم عاطفتها الإسلامية، ثم تحوَّلَ عدد منها بسهولة إلى داعش لما عاشت الإحباط بعد أحداث 2013م، ثم، وللأسف، تحوَّلَ عدد منها للإلحاد بعد مزيد من الإحباط!
- ثم خفتت الفضائيات أمام الزائر الجديد والمتقدم بعنفوان، وهي السوشيال ميديا؛ جاءت على واقع متسارع وأنفس مَلُولَة، أصبحت معتادة على السرعة والوجبات الإعلامية الخفيفة، وظهور دعاة يناسبون هذا الواقع المتسارع، فلم يعد متابع السوشيال ميديا يطيق مقطع فيديو يتجاوز الخمس دقائق، ويرى المقطع الصوتي مملًا جدًّا، ومن بقايا عصر الديناصورات، أما المقالات فهي كالدواء، لا يتجرعها إلا عند الضرورة!
- لذلك، فالملتزم عن طريق السوشيال ميديا أضعف التزامًا من سابقيه: فإن كنا نبكي أن من التزم عن طريق الفضائيات قد غلب على التزامه تحسُّن المظهر والسمت العام، ووجود خلل في التعليم الحقيقي، وافتقار الخلطة بالمربين؛ فإن الذي التزم عن طريق السوشيال والمقاطع القصيرة مفتقد -في شريحة ليست بالقليلة- للسمت والمظهر مع الافتقاد للجوهر! فأصبحنا نرى شريحة ممن يُعدُّون من الملتزمين وقد غاب عنهم بديهيات الالتزام ومعاني الالتزام الأولية؛ مِن: عفة اللسان، وترك فحش القول، بل لا نبالغ حين نقول: إن منهم مَن هو مقصر في الفروض، وفي تعلم ما تُصحُّ به عبادته، وربما كان ذا سلوك منحرف في معاملاته، لكنه في الوقت نفسه يخوض كل النقاشات، مجترئ على أهل العلم، سريع في اتهام غيره بالعمالة والنفاق، وربما الكفر، يتخلل كلامه السباب والألفاظ النابية كما يتخلل الماء الحصى.
- صرنا نرى الأعاجيب من شباب وشابات بعمر الزهور يخوضون في نقاشات يحجم عنها بعض العلماء، فمن استقى التزامه في أدغال السوشيال ميديا؛ كان وحشي الطبع، سريع التهمة، قليل الصبر!
- والسوشيال ميديا والعالم الافتراضي ليس لأحدٍ عليه سلطان؛ فربما وجَّه أبناءنا وبث سمومه في عقولهم رجل يحيا في سيبيريا أو أدغال كينيا!
- فما أحوجنا كمجتمع وكتيارات وكأفراد أن نلوذ مرة أخرى بالمساجد، ونجعلها تلك البيئة الآمنة التي هي مأوى الصالحين ومكان تعاونهم على البر والتقوى، وتكون فاتحة أبوابها تستقبل التائبين وتُعلِّم الجاهلين، تُربِّي النشء على مكارم الأخلاق.
- والمتابع المتأمل يعلم أن الذي ينشأ في المسجد يكون رحيمًا بمجتمعه، ولا يقسو عليه؛ لأنه يبصر الجانب الإيجابي في مجتمعه، فيبصر الصلوات والصدقات والتعاون على البر والتقوى.
- يخطئ مَن يظن أن المسجد يشكل خطرًا على المجتمع إن تركناه مفتوحًا! يخطئ مَن يظن أنه من الحكمة أن نسارع لغلق المساجد بعد الصلوات: ففي تسريب صوتي لـ"خيرت الشاطر"؛ خاطب إخوانه في الجماعة، واشتكى أنهم ظلوا بعيدين عن المساجد عشرين عامًا، وافتقدوا التربية المساجدية، وأنا أقول: لعله كان محقًّا؛ فلو لبثوا في المساجد لتحسَّنت أخلاقهم ولانت طباعهم، وكانوا أرحم بمجتمعهم.
- إن المسجد يمكن أن يكون مكانًا لتعلم العلم الشرعي الصحيح، ومكانًا للنشاط الاجتماعي: ففيه يلتقي الغني والفقير، ويبصر الغني حاجة الفقير، وفيه يتفقد المسلم أخاه ويقدم له يد العون، وحتى يمكن أن يكون مكانًا لانتقال الخبرات في أي مجال من المجالات التي تخدم المجتمع، ويمكن لعشرات الآلاف من المساجد أن تكون نقطة انطلاق ورافعة تنموية وإصلاحية لمجتمعنا.