كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
- يقدِّر الله -سبحانه وتعالى- أمورًا يستخرج بها ما في النفوس لنعلم بعضها، وتتباين ردود الأفعال وعند الله كتب بها مثاقيل الذر من الأعمال، وفي الآخرة حساب دقيق من رب يعلم ما تخفي الصدور، حيث لا أثر هناك للايكات ولا للشير؛ حيث لا مكان هناك للجان إلكترونية ولا للإعلانات الممولة.
- وقد حدث أن عقَّب د. ياسر في أحد دروسه أو أجاب عن سؤال: "هل نحن نأثم على ما يحدث في غزة؟"، وكالعادة طار الإخوان بالإجابة وشوَّهوها وقصوا منها، وطارت بها لجانهم الإلكترونية، حتى لما أنزل الشيخ توضيح تعاملوا معه نفس المعاملة، من اقتباس كلمات خارج سياقها وتصديرها بعناوين كاذبة، كما يفعل أي صحفي متمرس على الاغتيالات المعنوية في الصحف الصفراء!
ولنا عدة مشاهدات بعيدًا عن صلب الموضوع -الذي قُتِل بحثًا-:
المشهد أولًا: يسعني أن أقول: إن جماعة الإخوان التي من المفروض أنها تسعى لعودة أمجاد المسلمين وأستاذية العالم؛ قد أفسدت الذوق العام، بل وقواعد التفكير المنطقي -فضلًا عن محاسن الأخلاق-؛ حيث صدَّرت لنا شريحة واسعة من أبنائها لم تتعلم العلم الشرعيَّ وعندها حالة كاذبة من الاستعلاء الأجوف المبني على مجرد انتمائها للجماعة، ثم هي ترى أن كلَّ مَن هو خارج الجماعة مختلف معها فهو حلال العرض، وحلال لهم أن يستخدموا أقذع الألفاظ في سبابه! أما اتهامه بالكفر والنفاق والعمالة والخيانة؛ فعندهم أسهل من شرب الماء، حتى لو كانت معرفتهم به مجرد تعليق كَتَبه من دقيقة على إحدى صفحاتهم!
وقد ذاقت جماعة الإخوان مغبة هذه التربية عندما اختلفوا؛ فرمى بعضهم بعضًا بالخيانة والعمالة، واتهموا مَن هو منهم بالسرقة؛ فهل تابوا وحاولوا إصلاح منهجهم التربوي؟! الظاهر أنهم يسيرون في ذات الطريق، وسيذوقون من نفس الكأس مرارًا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (يونس: 23).
المشهد الثاني: كنت أعرف بعض المنتمين للدعوة وكنت أحسن بهم الظن، ولكن بعد أحداث رابعة لم يتحملوا ولم يفهموا مواقف الدعوة. ثم ماذا؟ تركوا ما كانوا يقومون به من خير. ثم ماذا؟ ابتعدوا عن حاضنة كانت تعينهم على الخير، حيث الرفيق الناصح الأمين. ثم ماذا؟ تحللوا من الهدي الظاهر. ثم ماذا؟ تخففوا من الواجبات الشرعية وصاروا يتجنبون حتى المفردات التي تدل على تسننهم، ثم ماذا؟ ثم تاهوا في وديان الدنيا، ولا يشاركون لا في أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ثم ماذا؟ ثم طَبَّعوا مع واقعهم وتماهوا معه؛ حتى إنك حينما تدخل صفحته لا تكاد تفرق بينه وبين من لم يعرف يوما طريقا للاستقامة، ولكنه مع ذلك ظل محتفظًا بحالة من الحنق على دعوته التي كان منتميًا لها في يوم من الأيام، ولا يكاد يجد فرصة للنيل من دعوته إلا اقتنصها، ووقع في: غيبة، بهتان، سوء ظن، شائعة، وكأنه يريد أن يسكِت صوت ضميره الذي يؤنبه على حاله التي وصل لها بأن يقول له: أنت حينما تركت معاني التزامك كنتَ على حق!
وحينما تركت المشاركة في الخير كنت على حق!
إياك أن تفكر أو تراجع نفسك، والدليل أنهم يتعرضون للسب من السفهاء، ثم ينطلق ويشارك هو في حملة السفهاء من سب وشتم، وتلقيح الكلام على صفحته بخطاب أجوف، وقد تدثر بثوب زائف من الحكمة والثبات على المبادئ يقف مستعليًا وهو يوبخ -كما سول له خياله - قطيعًا من المنحرفين، ثم يغلق صفحته ويذهب لعمله حيث يحرص على ألا يناديه الناس بلقب الشيخ، ويحرص على ألا يحسب على الملتزمين وإني لأعجب أهو هو صاحب الديانة الفطن حسن الخلق الذي كنت أعرفه، ألم والله يعتصر قلبي، وأدعو الله أن يهديهم لسواء السبيل سواء انتموا أم لم ينتموا.
المشهد الثالث: بعض طلبة العلم وأهل العلم الذين يعلمون صحة الكلام الذي أثير حول العهود والمواثيق أو حول المصالح والمفاسد، لكنهم عندما رأوا أن موجة النقد عالية وأن الساحة غلب عليها صياح السفهاء آثروا الصمت حتى يتجنبوا أن تطال النار ثيابهم، صمتوا عند فتنة التكفير والتفجير التي قادتها جماعة الإخوان وأقاربها من التيار القطبي بعد رابعة، وصمتوا عن الاشتباك مع المنكرات العامة بعد ذلك إذا كان ثمة ضريبة ستدفع، وهاهم يصمتون الآن، والذريعة عندهم هي الحفاظ على هيبة العلم والعلماء، وقد أخطأوا فإن هيبة العلم والعلماء في تبيين الحق ونصرته وعدم كتمانه أو التواري أو الخوف من السفهاء أو من الجماعات المنحرفة كجماعة الإخوان ولجانها، إن طالب العلم والعالم لا بد أن يقول الحق خاصة إذا كانت الضريبة مجرد كلمات نابية يسمعها من بعض السفهاء، ولو تكلموا جميعا لتوارى صوت السفهاء، ولكن الله يرزق من يشاء ويقدر.
المشهد الرابع: انتشار الجهل، وقلة العلم، بل وعدم الصبر على القراءة ولا السماع، كثير من الناس لا يقرأ سوى عنوان الخبر ثم يطير به، ويصدقه وينشره. يحب كثير من الناس أن يسمع الشائعات والفضائح والكذب، وقد ذمَّ الله بني إسرائيل على ذلك قال -تعالى-: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، قَالَا: الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ، يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (رواه البخاري).
جرأة على الكذب وجرأة على سماعه ونقله وكأنه لا يوجد يوم حساب، وترك التثبت، والإسلام دين التثبت؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6). يعتقد الجاهل أن خوضه في الأعراض سيمر مرور الكرام، ولا يدرك حجم الندم حينما يستقاد منه لا بدرهم ولا بدينار،، ولكن يؤخذ من حسناته ثم يطرح عليه من سيئات غيره.
المشهد الخامس: في الفتن يكون التلاعب بالنساء أكبر بكثير من الرجال، فهن وقود الفتن المفضل فهن سريعات الاشتعال، يلعب بعاطفتهن بأقل الكلمات، فإذا كانت المرأة تكفر العشير الذي أحسن لها الدهر حين تغضب منه، فكيف يكون فعلها مع من لم تعرف أو مع من لم يحسن لها؛ لذا على النساء أن تستعين بالله وتطلب منه الرشد وأن يتعلمن دينهن ويتعلمن التثبت، ولا يشاركن في فتنة قد سلمهن الله منها، وليساهمن في تربية النشأ على محاسن الأخلاق وعفة اللسان، وإحسان الظن بالعلماء، ولينتبهن ففاقد الشيء يصعب عليه إعطاؤه، والتي تترك نفسها ولسانها للخوض في الفتن سيصعب عليها أن تخرج جيلا يدعو لها بعد موتها.
المشهد السادس: عاجلًا ستنتهي حملة التشويه وسيعود كل إنسان لما كان يفعل قبلها، احمرت أنوف وانتفخت أوداج من أجل كلمة "إعلام اليهود بنقض العهد" أو بإعمال "قاعدة المصالح والمفاسد" في جهاد الدفع ثم لم يترتب على ذلك شيء؛ فلم نرَ نفيرًا نحو الحدود ولا زحفًا نحو غزة، ولا حتى مظاهرات نحو القواعد الأمريكية، ولا حتى إنكارًا على الدول التي تؤوي تلك القواعد، نسمع ضجيجًا ولا نرى طحينًا!
اليوم سيعود كلُّ مَن ملأ "السوشيال" صياحًا إلى عمله ودكانه وحقله، وسيتابع أخبار القصف وهو يعمِل قاعدة المصالح والمفاسد بحذافيرها على نفسه؛ أما إذا تعلق الأمر باثنين مليون نفس فسيرفض أن يعمِل عليهم قاعدة المصالح والمفاسد التي أعملها على نفسه، وسيتهم من يطالب بها بالخيانة والعمالة!
والعجيب: أنه لا يصنع معشار ما يقوم به مَن يتهمه مِن الإنكار باللسان؛ فللدعوة عشرات البيانات في نصرة فلسطين، ولا يصنع معشار ما تصنع من الدعم العيني فللدعوة مجهود هو من أكبر المجهودات في إيصال المساعدات لأهلنا في غزة والتأكد من وصولها لمن يستحق؛ فكلٌّ ميسر لما خلق له.
المشهد الأخير: تشم فيه رائحة احتراق الصدور والغل وتصفية الحسابات من أناسٍ لا خُلُق لديهم ولا مبادئ، يستغل الواحد منهم أي موقف لينفِّس عن حريق صدره، ونفث سمومه؛ لإثبات أن نميمته كانت عملًا صالحًا، وأن بهتانه من القربات، وأن كذباته أعمال صالحات، لن نستطيع أن نمكث كثيرًا في هذا المشهد الممرض للقلوب، هم أهون من أن ينشغل بهم مَن همه الإصلاح؛ فهؤلاء يُترَكون لأنفسهم، فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله؛ قال -تعالى-: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم: 95)، وقال -تعالى-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) (النحل: 111).