كتبه/ زين العابدين كامل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن تاريخ المسلمين حافل بالمعارك الحاسمة العظيمة، وذلك عبر القرون والأزمنة المتتالية، وقد حرص أعداء الأمة على تشويه تاريخها؛ ولذا وجب على أبناء الأمة أن يقوموا بدور البحث في صفحات التاريخ؛ لا سيما في وقتنا المعاصر حيث يعاني كثيرٌ من المسلمين من هزيمة نفسية بسبب ما تمر به الأمة من أحداث وقلاقل ومنعطفات؛ فإن تاريخنا الذي صنعه العظماء من أبناء أمتنا، يحمل بين طياته روح الأمل.
لقد فضَّل الله تعالى شهر رمضان على غيره من الشهور؛ فهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وهو شهر أنزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر.
وقدَّر الله -تعالى- أن تقع فيه كثيرٌ من المعارك والانتصارات، ونسلِّط الضوء في هذا المقال على بعض المعارك الحاسمة والانتصارات الباهرة، التي وقعت خلال شهر رمضان عبر القرون المتتالية.
غزوة بدر الكبرى (رمضان عام 2هـ):
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران: 123). وقال: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) (الأنفال: 41)؛ أي: اليوم الذي فرَّق الله -تعالى- فيه بين الحق الذي تمثِّله جماعة المسلمين، وبين الكفار الذين أنكروا دعوة الإسلام وكفروا بالله ورسوله؛ حيث وقعت تلك الغزوة بين مشركي قريش والمسلمين، لقد خرج المسلمون في (313 - 314 - 317)، على اختلاف الروايات، وكان أغلبهم من الأنصار حيث كان عددهم (230).
وخرج الكفار في 1000 رجل بقيادة أبي جهل، خرجوا في غطرسة وكبر، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (الأنفال: 47).
وما أجمل ما قاله الصحابة وسطَّره التاريخ، حيث قال المِقْدادُ بن عَمْرٍو المهاجري: يا رسول الله، امضِ لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بِرْكِ الْغِمادِ (موضع بناحية اليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى تبلغه. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا، ودعا له به.
وها هو سعد بن معاذ الأنصاري -رضي الله عنه-، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن عند موته فرحًا بقدومه، وتبع جنازته سبعون ألف ملك، فعندما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أشيروا عليَّ أيها الناس، وإنما يريد الأنصار، فقال سعد: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد.
وتراءى الجمعان في صبيحة يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ويتوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه بالدعاء: (اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ) (رواه مسلم). ويبالغ في الدعاء حتى يسقط رداؤه عن منكبيه، فرده الصديق وقال: حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك. وها هي الملائكة تتنزل من السماء (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12).
ويذكر ربنا المؤمنين بنعمه عليهم يوم بدر (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26).
فتح مكة: (رمضان عام 8هـ):
قال ابن القيم -رحمه الله-: "هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين" (زاد المعاد).
هو الفتح الذي حُطمت به الأصنام، وتم القضاء على معالم الكفر والوثنية، وتحولت مكة من معقل الكفار إلى عاصمة الإسلام والمسلمين؛ ولذا يُعد فتح مكة حدثًا فاصلًا في تاريخ الإسلام، لا سيما في أرض الحجاز.
لقد غدرت قريش وعاونت بني بكر بالسلاح يوم أن أغارت بنو بكر على خزاعة، وهذا يتعارض مع اتفاق صلح الحديبية، وحاولت قريش أن تجدد الصلح مع المسلمين فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي اليوم العاشر من شهر رمضان المبارك عام 8 هـ، غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة متجهاً إلى مكة، في عشرة آلاف من الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد اختلف أهل السير في يوم دخوله مكة المكرمة وفتحها، وهو اليوم المعروف بيوم الفتح، ما بين ثلاث عشرة، وست عشرة، وسبع عشرة، وثماني عشرة، وقيل: دخل مكة لتسع عشرة خلت من رمضان.
ولم يدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، بل دخلها خاشعًا لله متواضعًا شاكرًا لأنعمه، وكان يقرأ سورة الفتح، ودخل الكعبة وصلى بها وكبر الله تعالى في أركانها، وأمر بتحطيم الأصنام تطهيرًا للبيت الحرام، وكان يطعنها بقوسه وهو يقرأ: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81).
وقد أصدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عفوًا عامًّا لأهل مكة الذين تجمعوا بساحة المسجد الحرام، حيث قال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) (يوسف: 92)، عدا مجموعة أهدر دمها -صلى الله عليه وسلم-.
وهكذا فتح المسلمون مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك، وتم تطهير البيت العتيق من مظاهر الجاهلية والوثنية.
معركة البُوَيْبِ: (رمضان عام 13هـ):
وتعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بأرض العراق في عصر الخليفة عمر -رضي الله عنه-؛ حيث قاد المثنى بن حارثة جيش المسلمين والتقى بالفرس بقيادة مِهْران بن باذان في البويب (وتسمى أيضًا معركة النخيلة، والبويب نهر كان بالعراق موضع الكوفة، فمه عند دار الرزق يأخذ من الفرات، الحموي: معجم البلدان، 1/512).
وقد صحب الجيش الفارسي ثلاثة أفيال، وقد تمكن المثنى من حصر الفرس والإيقاع بهم وقتل مِهْران، كما قام بتعقب الفارين، وبذلك استعاد المسلمون معنوياتهم بعد هزيمتهم في معركة الجسر. وفي هذه المعركة اشتركت بعض القبائل العربية ونصارى النمر وتغلب إلى جانب المسلمين ضد الفرس، وسمى المسلمون معركة البويب التي وقعت في شهر رمضان عام 13هـ، يوم الأعشار؛ لأنهم أحصوا مائة رجل قتل كل منهم عشرة في المعركة (الطبري: تاريخ الرسل والملوك (3/461) وطقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية ص189 والحميدي: التاريخ الإسلامي ص320-330).
فتح بلاد النوبة ومعاهدة القبط: (رمضان 31هـ):
أرض النوبة هي الامتداد الجنوبي الطبيعي لأرض مصر، وتمتد من جنوب مصر إلى شمال السودان، وقد استعصت على المسلمين لسنوات عديدة، وذلك نظرًا لشدة بأس أهلها ومهارتهم العالية في الرمي. وقد وقعت المحاولة الأولى لفتح بلاد النوبة عام 21هـ، حيث أرسل إليهم عمرو بن العاص جيشًا بقيادة نافع بن عبد القيس الفهري، -وقيل بقيادة عقبة بن نافع الفهري- والأول أصح، ولكن الجيش رجع دون أن يحقق شيئًا، إذ قابله أهل النوبة ببأس شديد، ورجع كثير من المسلمين بأعين مفقوءة، وقد تم التوافق على هدنة بين المسلمين والنوبيين. ثم في عصر خلافة أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، كان عبد الله بن أبي السرح هو الوالي على مصر، فنقض أهل النوبة الصلح، فتحرك ابن أبي السرح على رأس جيش يتكون من خمسة آلاف فارس.
وقيل: بل خرج في عشرين ألف مقاتل، وكان الجيش مزودًا بالمؤن والسلاح وآلات الحصار، وتوغل في أراضيهم حتى مدينة دنقلة، عاصمة بلدهم، وفرض على العاصمة الحصار، واستخدم المنجنيق في قذفها، وهنا أسرع حاكم النوبة قليدوروث إلى طلب الصلح من المسلمين، وتم الصلح بين الطرفين على مال يدفعه أهل النوبة للمسلمين، وتم عقد الصلح في رمضان عام 31هـ، وسرعان ما انتشر الإسلام بعدها بين أهل النوبة (راجع المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ابن عبد الحكم: فتوح مصر والمغرب، البَلَاذُري: فتوح البلدان، الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار، د. محمد عبد العال أحمد: النوبة والمحاولات لفتحها).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.