كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهو محمَّد ناصر الدِّين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودريّ الألبانيّ الأرنؤوطيّ.
فقد وُلِدَ في سنة 1914م، بمدينةِ أَشْقُودْرَة، عاصمةِ ألبانيا آنَذَاكَ، وهي مدينةٌ تَقَعُ في شَمالِ غربِ ألبانيا، بالقُربِ مِن حُدودِ ألبانيا مع جُمهُوريَّةِ الجَبلِ الأَسْوَدِ، وتَطُلُّ على بُحيرةِ أشقودرةَ وجبالِ الأَلْبِ، ممَّا يَجعلُها مَزَارًا سياحيًّا جميلًا مُمْتِعًا.
وفي بداياتِ القَرْنِ الماضي، وبعد سُقُوطِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ، هَبَّتْ رياحُ التَّغريبِ على دُوَلِ منطقةِ البَلْقانِ، ومنها ألبانيا.
وتَوَلَّى أحمد زوغو رِئاسةَ جُمهُوريَّةِ ألبانيا في عام 1925م، وكان قَبْلَهَا رئيسَ وُزَرَاءِ ألبانيا مِن عام 1922م حتَّى عام 1924م؛ واسْمُهُ أحمد مختار بيه زوغوللي، وفي عام 1922م غيَّر أحمد زوغللي اسْمَ العائلةِ رسميًّا مِن الاسْمِ التُّرْكِيِّ زوغللي إلى زوغو، ومعناها الطَّيْرُ بالألبانيَّة.
وبعد أن حَثَّهُ الغَرْبُ على تحويلِ ألبانيا مِن جُمهُوريَّةٍ إلى مَمْلَكَةٍ، حتَّى يَبْقَى على عَرْشِهَا مدى الحياةِ، قام أحمد زوغو في عام 1928م بتحويلِ ألبانيا مِن جُمهُوريَّةٍ إلى مَمْلَكَةٍ، ونَصَّبَ نَفْسَهُ مَلِكًا عليها.
وقد اتَّخَذَ الغَربُ أحمد زوغو دُمْيَةً لِنَشْرِ التَّغْرِيبِ في ألبانيا، وقد لَقَّنُوهُ حُجَّةً لِتَبْرِيرِ أفعالِه في سبيلِ تحقيقِ هذه الغايةِ المَنْشُودَةِ، وهي أنَّه لا يُمْكِنُ لِألبانيا أن تَلْحَقَ بِرَكْبِ التَّطَوُّرِ الحضاريِّ الماديِّ إلا إذا اتَّبعَت سبيلَ الغَربِ، وسلَكَت مَسَالِكَه!
فسار أحمد زوغو في ألبانيا على خُطَى مصطفى أتاتورك في تركيا، فَأَوْقَفَ العملَ بِالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ، وعَمِلَ بالقوانينِ المَدَنِيَّةِ السُّويسرِيَّةِ، وحَظَرَ الحِجابَ، وقرَّر وُجُوبَ خُرُوجِ النِّساءِ سافراتٍ، وفَرَضَ على مُوَظَّفِي الدَّوْلةِ وطُلَّابِ المَدارسِ الثَّانويَّةِ لُبْسَ البُرْنَيْطَةِ، وأَلْغَى الدُّرُوسَ الدِّينيَّةَ التي كانت تُعْقَدُ في المساجدِ، وأَلْغَى أيضًا تدريسَ التَّرْبِيَةِ الإسلاميَّةِ في المَدارسِ.
ومِن الطَّريفِ أنَّ هذا المَلِكَ كان صاحبَ الرَّقْمِ القِيَاسِيِّ -لا بين المُلُوكِ فَحَسْبُ، بل بين جميعِ رجالِ الحُكْمِ والسِّياسةِ في العالَمِ كُلِّه- بما قُذِفَ به مِن قَنَابِلَ وأُطْلِقَ عليه مِن رَصَاصٍ؛ فقد تَعَرَّضَ لِحَوادثِ اغتيالٍ بلَغَت خَمْسًا وخمسينَ حادثةً، ومِن أعجبِ هذه الحَوادثِ حادثة 21 فبراير لسنة 1931م، حينما كان يَزُورُ دارَ أوبرا فيينا، التي اشْتَبَكَ فيها بِنَفْسِهِ مع المُهاجِمِينَ، وتَبَادَلَ معهم إطلاقَ النَّارِ.
ومِن القِصَصِ الطَّريفةِ في هذه الحَوادثِ: أنَّ الشَّعْبَ الألبانيَّ كان إذا عَلِمَ أنَّ أحمد زوغو يَعْزِمُ على الزَّوَاجِ بأجنبيَّةٍ مِن غَيْرِ شَعبِه عَمَدَ بعضُ الأشخاصِ المَجهُولِينَ منه إلى إلقاءِ قُنْبُلَةٍ عليه مِن إحدى نَوافِذِ قَصْرِهِ، أو إطلاقِ الرَّصَاصِ عليه في أثناءِ سَيْرِهِ في الطَّريقِ؛ فكم مِن مَرَّةٍ كان فيها مِن الموتِ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى! وله في ذلك قِصَصٌ عجيبةٌ، لا يَتَّسِعُ المَقَامُ لِحَصْرِهَا، وتَمَامِ ذِكْرِهَا.
وقد ذكر الإمامُ الألبانيُّ شيئًا مِن حكايةِ أحمد زوغو فيما بَعْدُ، وكان يقول: "أَزَاغَ اللهُ قَلْبَه"؛ فقال في "سلسلةِ الأحاديثِ الصحيحةِ وشيءٍ مِن فِقْهِهَا وفوائدِها" (7 / 615 / 3203)، تحت حديثِ "سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ...": (وبهذه المُناسَبةِ يَحِقُّ لي أن أَقُولَ بيانًا لِلتَّاريخِ، وشُكْرًا لِوَالِدِي -رحمه الله تعالى-: وكذلك في الحديثِ بُشْرَى لنا آلِ الوَالِدِ، الذي هاجر بأهلِه مِن بلدِه (أشقودرة) عاصمةِ (ألبانيا) يومئذٍ، فِرَارًا بالدِّينِ مِن ثورةِ (أحمد زوغو) -أَزَاغَ اللهُ قَلْبَه-، الذي بدأ يَسِيرُ في المُسلِمِينَ الألبانِ مَسِيرَةَ سَلَفِهِ (أتاتورك) في الأتراكِ، فَجَنَيْتُ -بفضلِ اللهِ ورحمتِه- بسببِ هجرتِه هذه إلى (دمشقِ الشَّامِ) ما لا أستطيعُ أن أَقُومَ لِرَبِّي بِوَاجِبِ شُكْرِهِ، ولو عِشْتُ عُمْرَ نُوحٍ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-) (انتهى).
ونُكْمِلُ الحكايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء اللهُ-.
واللهُ المُوَفِّقُ.