كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة:
- الإسلام يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني). وفي رواية: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
من مكارم الأخلاق المنشودة، ومن أرقى الخصال الإسلامية المحبوبة إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيثار": قال -تعالى-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، وذلك لأن نفوسنا مجبولة على الأثرة، لا على الإيثار.
تعريف الإيثار:
الإيثار لغةً: مصدر آثر يُؤْثِر إيثارًا، بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص، فآثره إيثارًا اختاره وفضله، ويقال: آثره على نفسه. (المعجم الوسيط).
الإيثار اصطلاحًا: أن يقدِّم غيره على نفسه في النفع له، والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة. (التعريفات للجرجاني).
حاجتنا إلى إحياء هذا الخلق الراقي:
نحتاج إلى إحياء هذا الخلق الراقي الذي يكاد يندثر بين الناس؛ لا سيما في زمان الشح والطمع الذي ساد.
(1) شواهد الإيثار في القرآن والسنة:
جعل الله -تعالى- الإيثار من أعظم صفات أهل المدينة (الأنصار): قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9). قال ابن كثير: "أي: يقدِّمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير).
وجعل الله -تعالى- الإيثار من أبواب الإيمان العظيمة التي هي دليل على صدقه: قال -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177). قال المفسرون: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، "مع حبه واشتهائه والرغبة فيه"، وقال -تعالى-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 92).
ورغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الإيثار، وبيَّن أنه أعظم أنواع الإنفاق على الإطلاق: فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: (أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، أَلَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) (متفق عليه). قال ابن بطال: "فيه أن أعمال البر كلما صعبت، كان أجرها أعظم".
الإيثار يحيي التكافل بين المسلمين: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ) (متفق عليه)، وفي لفظ لمسلم: (طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ). قال المهلب: "والمراد بهذه الأحاديث: الحض على المكارمة في الأكل، والمواساة والإيثار على النفس" (عمدة القاري للعيني).
(2) نماذج في الإيثار(1)(2):
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقِيلَ لَهُ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ، مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، اكْسُنِيهَا. فَقَالَ: (نَعَمْ)، فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. (رواه البخاري).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا المُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي المَهْنَإِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ) (رواه البخاري).
وهذا عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: في الحديث عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ... ".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
وفي غزوة اليرموك قام عكرمة بن أبي جهل في مواجهة العدو، وجعل يقول: "قاتلت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواطن وأفر منكم اليوم؟! ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعًا جراحًا، وقُتِل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور... فلما صرعوا من الجراح استسقوا ماء، فجيء إليهم بشربة ماء، فلما قربت إلى أحدهم نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فلما دُفِعَت إليه نظر إليه الآخر، فقال: ادفعها إليه. فتدافعوها كلهم -من واحد إلى واحد- حتى ماتوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم -رضي الله عنهم- أجمعين" (البداية والنهاية لابن كثير).
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: " أُهْدِي لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَأْسُ شَاةٍ، فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا وَعِيَالَهُ أَحْوَجُ إِلَى هَذَا مِنَّا. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ إِلَيْهِ وَاحِدًا إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهَا سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ حَتَّى رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ فَنَزَلَتْ: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)" (رواه البيهقي والحاكم).
ودخل على عائشة -رضي الله عنها- مسكين فسألها -وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف-، فقالت لمولاة لها: "أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، فَقَالَتْ: لَيْسَ لَكِ مَا تُفْطِرِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعْطِيهِ إِيَّاهُ، قَالَتْ: فَفَعَلْتُ، قَالَتْ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا أَهْدَى لَنَا أَهْلُ بَيْتٍ أَوْ إِنْسَانٌ مَا كَانَ يُهْدِي لَنَا شَاةً وَكَفَنَهَا، فَدَعَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: كُلِي مِنْ هَذَا، هَذَا خَيْرٌ مِنْ قُرْصِكِ" (رواه مالك في الموطأ).
خاتمة: وسائل اكتساب صفة الإيثار:
الإيثار منه فطري، ومنه كسبي(3)، وإليك بعض الوسائل المعينة على النوع الكسبي.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن قيل: فما الذي يسهِّل على النفس هذا الإيثار؛ فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهِّله أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها؛ فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها: الإيثار. وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله.
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام ومقت الشح وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها الله -سبحانه وتعالى- للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدِّه؛ فإن ذلك عسير جدًّا، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو -لخوفه من تضييع الحق، والدخول في الظلم- يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله، ومن جرَّب هذا عرفه، ومن لم يجرِّبه فليستقرئ أحوال العالم، والموفق من وفقه الله -سبحانه وتعالى-" (طريق الهجرتين وباب السعادتين).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فائدة: هل الإيثار هو السخاء والجود؟
الجواب: ذكر ابن قيم الجوزية فروقًا بين كلٍّ من الإيثار والسخاء والجود، مع أنها كلها أفعال بذل وعطاء، فقال: "وهذا المنزل -أي الإيثار-: هو منزل الجود والسخاء والإحسان، وسمي بمنزل الإيثار؛ لأنه أعلى مراتبه، فإن المراتب ثلاثة:
إحداها: ألا ينقصه البذل ولا يصعب عليه؛ فهو منزلة السخاء.
الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئًا، أو يبقي مثل ما أعطى فهو الجود.
الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه، وهي مرتبة الإيثار. (مدارج السالكين).
(2) في إحدى البلاد الغربية، حدث موقف يظهر فيه خلق الإيثار، فطاروا به في الإعلام، وذلك لافتقادهم ذلك في حياتهم المادية البحتة، رجاء أن يشيع ذلك بينهم! وملخصه: "أن امرأة من الأغنياء كانت تركب سيارتها، وفجأة تعطلت السيارة بسبب انقطاع الوقود وفراغ الخزان دون أن تدري، ثم اكتشفت أنها نسيت المال، فقام إليها رجل شحاذ يجلس على الرصيف، فأعطاها ما معه من نقود، فذهبت فاشترت الوقود، ثم انصرفت وعادت إليه بعد ساعات وكافأته بمبلغ مالي كبير، وقامت بتصويره، ونشر ذلك في الإعلام"؛ فتعالوا لنرى صورًا من الإيثار لم تعرف البشرية مثلها من قبل؛ عسى أن تعود إلينا قِيَم ديننا، وشيم سلفنا؛ الذين فعلوا كل ذلك إيمانًا واحتسابًا.
(3) أنواع الإيثار:
نوع فطري أو غريزي -كالذي يكون عند الآباء والأمهات-: عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ) (رواه مسلم).
نوع كسبي: ويكون الدافع له هو الإيمان، وحب الخير للغير، على حساب النفس وملذاتها ومشتهياتها، وليس إيثارًا انفعاليًّا عاطفيًّا مجرَّدًا، ولكنه يعتمد على عاطفة إيمانية من نفسٍ محتسبة.