الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 04 فبراير 2025 - 5 شعبان 1446هـ

الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (198) دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أباه إلى التوحيد وترك الشرك (14)

كتبه/ ياسر برهامي 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ 

فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).

الفائدة التاسعة عشرة:

في قوله -سبحانه وتعالى-: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا): لم يرد إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- الأذى بأذى، ولم يرد الكلمة السيئة بكلمة سيئة مثلها، ولم يرد التهديد بالتهديد، وهكذا لا بد أن تفهم أيها الداعي إلى الله فقه الدعوة إلى الله؛ قال الله -عز وجل-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت: 34-35)، وهذه منزلة لا يلقَّاها ولا يوفَّق لها إلا ذو حظ عظيم؛ أن يقابل الإساءة بالإحسان، كما قال ربنا -عز وجل-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون: 96).

حتى يأذن الله له بالانتصار لدينه، ويمكِّن المؤمن من القيام بالحق الذي أمر الله به بالقوة التي شرعها الله، وعند ذلك ينتصر لله لا لنفسه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (‌وَبِكَ ‌خَاصَمْتُ، ‌وَإِلَيْكَ ‌حَاكَمْتُ) (متفق عليه)، وأما قبل أن يأذن الله بذلك، وقبل أن توجد إمكانية نصر الحق بالقوة التي شرعها الله -عز وجل-؛ فالواجب المشروع له هو الصبر ومقابلة الإساءة بالإحسان، وأن يقول لمن أساءوا إليه: (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55)؛ كما قال -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63)، وقال -عز وجل-: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (القصص: 54).

وأنت أيها المسلم ينبغي أن تعامل الناس بذلك: في دعوتك إلى الله، وهذا من أعظم ما يجعل للدعوة القبول بين الناس، فإنك إذا واجهت كلَّ إساءةٍ إليك، بإساءةٍ مثلها، وإذا عاقبت دائمًا بمثل ما عُوقِبت به؛ لم يكن لك فضل على الناس، ولم يكن لك فيهم قبول مثل قبول مَن صبر واحتسب، وهذا يتأكد مع أهل الإسلام، وليس بمنسوخ قط في حقهم، وإنما الكلام على النسخ مع الكفار.

والحقيقة: أنه ليس منسوخًا، لكنه خاص بوقت معين؛ عندما تكون المصلحة الشرعية المعتبرة في الصبر، لا في مقابلة السيئة بالسيئة، ولا في الانتصار، وقد قال الله -عز وجل-: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى: 43)، بعد قوله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى: 39).

إذًا الأمور تتفاوت وتختلف من حال إلى حال، وكم من محاولة للانتصار من البغي دون ضبطِ شروط هذا الانتصار، وإمكانيته والقدرة عليه؛ أدَّت إلى مزيدٍ من الظلم والبغي والعدوان، وأذى المسلمين المتعدي إلى غيرهم، والمسلم لا يجوز أن يتسبب في أذى غيره من المسلمين؛ بزعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.

إن الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يحقق مقاصده المشروعة مِن ذلك، وهو: إعزاز دين الله، وإعزاز وإكرام أهلِه من أهل الإيمان والإسلام، وليس أن تنتهك حرماتهم، وأن تُسفك دماؤهم، وأن تضيع حقوقهم أكثر مما هي ضائعة؛ قال الله -عز وجل- فيما ذكر من وصية لقمان لابنه، وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17).

وقد أثنى الله -عز وجل- على عباده المؤمنين في ذلك، وأوجبه عليهم، وأمرهم بالصبر والعفو والصفح، وجعل في الأنبياء الأسوة الحسنة؛ حتى يقتدوا بهم في عدم مقابلة الإساءة بالإساءة، ولكن بالعفو والصفح.

وكان في وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكتب المتقدمة؛ كما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- لما سُئِل عن وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في التوراة، فقال: "وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، ‌سَمَّيْتُكَ ‌الْمُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا" (رواه البخاري).

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هكذا، صبورًا حليمًا حتى مع الكفرة قبل أن يؤمنوا؛ فيعفو ويصفح، وكذلك حين تمكَّن منهم يوم فتح مكة؛ فكيف إذًا في معاملة المسلم؟!

ولقد كان هذا الخُلُق العظيم من أسباب إسلام كثيرٍ منهم: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمشركي مكة، وقد تمكَّن منهم، وهم الذين قاتلوه وجرحوه، وكادوا أن يقتلوه- لولا أن عصمه الله منهم-، وقتلوا أصحابه؛ قتلوا أولياء الله -عز وجل- من خيرة أهل الأرض ومثَّلوا بجثثهم، ومع ذلك لما تمكَّن منهم؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وقال: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" كما في حديث إسلام أبي سفيان بن الحارث ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عليًّا -رضي الله تعالى عنه-، أشار على ابن عمه أبي سفيان بوسيلة يترضَّى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال له: ‌ائته ‌مِن ‌قِبَل ‌وجهه، وقل ما قال إخوة يوسف: (تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (يوسف: 91)؛ فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسن منه جوابًا، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: 92). (رواه ابن جرير والحاكم، وحسنه الألباني في فقه السيرة).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.