كتبه/ نصر رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا يخفى على كلِّ مسلم مكانة أهل العلم وأئمة الدِّين، ورفعة شأنهم، وعلو منزلتهم، وسمو قدرهم؛ فهم في الخير قادة وأئمة تقتصُّ آثارهم، ويُقتدى بأفعالهم، ويُنتهى إلى رأيهم، فهم مصابيح الدجى، ومنارات خير، وأئمة هدى، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار، ودرجات المتقين الأبرار؛ قد سمت بالعلم منزلتهم، وعلت مكانتهم، وعظم شأنهم وقدرهم، قال الله -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11).
فأهل العلم: هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، ورثةُ الأنبياء، وقُرَّةُ عين الأولياء، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ والزيف، مجالسهم تفيد الحكمة، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة؛ مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيَّروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا. حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، فهم كسفينة نوح؛ من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها -لا سيما في زمن الفتن- كان من المُغْرَقين.
أهل العلم: شابت لحاهم في تعلُّم العلم وتعليمه، يُذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، وقد جعل الله سياسة هذه الأمة في العلماء، فقد ثبت بالتجربة وما مرَّ بالأمة من أحداث في القديم والحديث أن أهل العلم الراسخين هم ساسة الأمة؛ فعن جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم-؛ منهم: علي بن أبي طالب، ومعاذ، وابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني).
ولما قيل لابن المبارك -رحمه الله-: "أما تخشى على العلم أن يجيء المبتدع فيزيد في الحديث ما ليس منه؟ قال: لا أخشى هذا، يعيش الجهابذة النقاد"، وبلفظ: "يعيش لها الجهابذة" (ينظر: التمهيد).
وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "ولما لم يمكن أحد أن يدخل في القرآن شيئًا ليس منه، أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينقصون، ويبدلون، ويضعون عليه ما لم يقل؛ فأنشأ الله -عز وجل- علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح، ويفضحون القبيح، وما يخلي الله -عز وجل- منهم عصرًا من العصور" (الموضوعات).
ومن المعلوم لدى كل الناس: أن التعويل في كلِّ فنٍّ لا يكون إلا على أهل الاختصاص فيه؛ فكيف الشأن بعلم الشريعة، ومعرفة الأحكام والفقه في النوازل؟! كيف يرجع فيها إلى مَن ليس معروفًا في هذا بالرسوخ في العلم؟!
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "المنصب والولاية لا يجعل مَن ليس عالمًا مجتهدًا، عالمًا مجتهدًا، ولو كان الكلام في العلم والدِّين بالولايات والمنصب؛ لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يُستفتى الناس، ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدِّين؛ فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدَّعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فمَن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدَّى طوره" (مجموع الفتاوى).
ثم إن الدليل من الكتاب والسُّنة قد دلا على وجوب الرجوع إلى أهل العلم، والصدور عن قولهم، وأن من حق العلماء ألا يُفتات عليهم فيما هم أهله والجديرون به؛ ألا وهو بيان دين الله للناس، وتقرير الأحكام؛ بالتقدم عليهم، أو التقليل من شأنهم، أو صرف الناس عنهم، أو التعسف في تغليطهم، أو غير ذلك مما هو سبيل الجاهلين؛ ممَّن لا يعرفون قدر العلماء ومكانتهم.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.