الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه؛ أن هيَّأ أسباب توقف العدوان على إخواننا في غزة. نسأل الله أن يتقبل قتلاهم في الشهداء، وأن يشفي جراحهم، وأن يلم شمل أسرهم، وأن يُبدلهم من بعد خوفهم أمنًا.
كما نتوجه بالشكر للإدارة المصرية على حسن إدارتها للأزمة منذ بدايتها، وتقديمها للدعم السياسي والإغاثي لإخواننا في غزة، ورفضها لمخطط التهجير، وقيادتها للمفاوضات الشاقة من أجل إنجاز هذا الاتفاق.
كما نتوجه بالشكر لدولة قطر، ولكل الدول الإسلامية التي ساهمت في حلِّ الأزمة.
ونداؤنا إلى القيادات العربية والإسلامية: أن تدرك أن السياسة الدولية مصالح متشابكة، وتستطيع دولنا بما تملك مِن: ثروات، وموقع جغرافي، وقوة بشرية متعددة العطاء في ميادين شَتَّى أن تجبر العالم على إعادة حساباته.
ورغم أن أمريكا وإنجلترا -والمعسكر الغربي عمومًا- يعتبرون الكيان الصهيوني وكيلهم في المنطقة، ومِن ثَمَّ يدعمونه دعمًا كبيرًا؛ فإن كل الدول المسماة بالقوى العظمى تتغير سياساتها بمتغيرات داخلية تارة، وخارجية تارة، وسياسية تارة، واقتصادية تارة أخرى، فإن أحسنَّا توظيف طاقاتنا سوف نشكِّل رقمًا مهمًّا في معادلة سقف الدعم الذي يقدِّمونه للكيان الصهيوني، والذي دائمًا ما يكون متعطشًا للدماء ما لم يردعه الآخرون.
وربما تغيرت حسابات الكثير من القوى الكبرى نتيجة جائحة يرسلها الله عليهم من ريح أو إعصار أو حرائق؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: 31).
وإيماننا بما جاء في الكتاب والسُّنة من تسليط الله لجندٍ من جنوده على بعض الطغاة، وما نراه بأعيننا من صور من هذا، لا ينبغي أبدًا أن نتصور أنه يعني أن نخوض مواجهات دونما أن يكون لدينا غلبة ظن بحدوث مصالح شرعية وَفْق موازين القوى التي نراها أمامنا؛ فهذا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- صَبَر في مكة وأُوذي وحُوصِر في الشِّعْب، وهاجر أصحابه إلى الحبشة ثم إلى المدينة، ثم بعد ذلك كله، وبعد أن استقر في المدينة؛ ما أقدم على غزوةٍ إلا بحسابات القوة والضعف، وهو رسول الله، والموعود بحفظ الله له حتى يُبلغ رسالته، ولكنه أراد أن يُشرِّع لأمته هديها في الجهاد.
نعم، يخطئ البشر في حسابات الواقع أحيانًا، وهذا متى كان بعد استفراغ الوُسع في حصول غلبة الظن بحصول المصالح؛ فحينئذٍ يدخل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) (متفق عليه).
نعم، الجهاد لا بد فيه من بذل للنفوس، ولكن إنما يكون ذلك لغلبة ظن أن نجني من ورائه حماية: للدِّين، والنَّفْس، والعرض، والعقل، والمال (وأرض المسلمين وبلادهم التي يعيشون عليها هي وعاء لذلك كله)، ولا يُضحَّى بمصلحة من هذه إلا مع تعارضها مع ما هو أولى منها.
وهذا لا تقتصر حساباته على عسكريين ومدنيين، بل لما تعارضت مصلحة حفظ دماء مجموعة من المسلمين يعيشون مستضعفين خارج الدولة الإسلامية مع مصلحة عمرة حُرِم منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه سنوات عديدة، وظفر على المشركين وأغاظهم، ترجَّح بنصِّ الوحي تأجيل هذا كله حفاظًا على دماء هؤلاء؛ قال الله -تعالى-: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الفتح: 25).
وفي النهاية: نستحث همم كلِّ الجمعيات الخيرية الإغاثية أن تنشطَ بكلِّ ما أوتيت من قوة في جمع المساعدات لصالح إخواننا في غزة. ونحن مسلمون، إسلامنا مصدر فخرنا وعزنا، ولكن لا شك أن كل واحد يحب أن يرى من قومه التسابق إلى الخير.
ولقد كان المتسابقون إلى الخير في التبرع لأهل غزة في أول الحرب مصدر سرورنا بطاعة شعبنا، ولم يوقفهم إلا إغلاق البوابات، وها هي ستفتح؛ فليبادر شعبنا في إرسال رسالته إلى إخوانهم في غزة: نحن أنتم، وأنتم نحن، وهذه هي أمتنا، مصداقًا لقوله -تعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).
نسأل الله أن يحفظ المسجد الأقصى وغزة وفلسطين، وسائر بلاد المسلمين، وأن يحفظ مصر ويستعملها دائمًا في خدمة قضايا أمتها.
الدعوة السلفية بمصر
الجمعة 17 رجب 1446هـ
17 يناير 2025م