كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا . يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا . يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا . يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا . قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا . قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا . وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا . فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا . وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (مريم: 41-50).
فيه فوائد:
الفائدة الأولى: قوله -تعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ): أمرُ الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يذكر في الكتاب أنبياءه وأولياءه له أهمية عظيمة في حياة المسلمين؛ أن الأسوة الحسنة فيهم ضرورة في إثبات أن عقيدة التوحيد والإيمان، وكذا العبادة والإسلام، وكذا الأخلاق وأعمال القلوب والسلوك والإحسان، أمور قابلة للتطبيق في الحياة، ولها واقع في البشر، وليست مجرد أفكار نظرية ومثاليات مجردة، بل واقع عملي يلزمنا اتباعه والاقتداء به، فوجود الأنبياء والصالحين ومحبتهم ضرورة لتحقيق الإسلام والإيمان والإحسان في نفوس المؤمنين.
الفائدة الثانية: وصفُ الله -تعالى- إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- بالصديقية مع وصفة بالنبوة، كما وصف إدريس بذلك: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ? إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) (مريم: 56)، دال على أن وصف الصديقية لا ينافي وصف الرسالة والنبوة، بل هو جزءٌ من معاني النبوة والرسالة عظيمة القدر.
ووصف الصديقية مأخوذ من التصديق كما رجحه ابن جرير -رحمه الله- على صيغة المبالغة؛ فهو كثير التصديق، وإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قد وصفه الله بأنه من الموقنين؛ قال -تعالى-: (وَكَذَ?لِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (الأنعام: 75).
وقد بيَّن -سبحانه- أن هذا التصديق العظيم الذي وصل إلى أعلى درجات اليقين والطمأنينة هو مِنَّة مِن الله يجعلها في قلوب عباده، وإن كان لها أسباب؛ وهي: كثرة النظر في خلق السماوات والأرض، فيرى العبد ملك الله فيها، فالناس لا يملكون شيئًا في هذا الملكوت الواسع، والتدبير الدائم في كل لحظة مع الإتقان والإحكام والحكمة، وهي كلها تدل على كمال الخبرة والعلم والقدرة، وغيرها من صفات الله، ويصل العبد مع تكرير النظر إلى اليقين وعظيم التصديق؛ قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (آل عمران: 189-192) الآيات.
الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا): دليل على البدء في دعوة التوحيد، بدعوة الأقارب والأهل، هكذا ينبغي أن يبدأ الداعي في عشيرته المقربين كما قال الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، فبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته بدعوة عشيرته وأهل بيته، فآمن به من آمن ورد عليه من رد، وهكذا ينبغي على كل داعية أن يبدأ دعوته بأهل بيته ثم المقربين منهم من أقاربه وجيرانه وزملائه، وهذا أمر عظيم الأهمية؛ فليست القضية عبادة الله برسوم معينة لا نستطيع الدعوة إلا من خلالها أو أشكال معينة لا تقوم الدعوة إلا بها، بل الدعوة إلى الله تكون بالقول والعمل والسلوك، ومخالطة الإنسان لمن حوله.
ولو كان الإنسان صادقًا في دعوته فإن الله لا يضيع عمله هباءً منثورًا؛ لا سيما في أقاربه وأهل بيته، ومن يخالطه؛ فإن الله يضع للمؤمن القبول في الأرض، ولا نعني بذلك أنه لا بد أن يهتدي كلُّ مَن تدعوهم من أهل بيتك؛ لأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، كما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56)؛ فهو بعلمه وحكمته يهدي من يستحق الهداية، ويضل من يستحق الضلال، ولكن لا بد أن نبذل معهم الجهد الكبير مقدِّمين لهم على غيرهم، لا أن نتركهم فريسة للشياطين التي تريد أن تفتك بهم.
وهكذا كان أنبياء الله -صلى الله عليهم وسلم- يدعون أهلهم أولًا، وهكذا كان الدعاة إلى الله يهتمون دائمًا بالمقربين بهم، ولا يعني ذلك أن تترك دعوة الأباعد والأغراب، ولكن ابدأ بأهل بيتك واسعَ في إصلاح أسرتك، (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (متفق عليه).
فتدعو الكبير والصغير؛ تدعو أباك، وإخوانك، وذريتك، وأقاربك، وتدعو كل من حولك إلى الله -عز وجل-؛ عليك العمل وعلى الله الهداية، فإن إبراهيم دعا أباه إلى الله ولم يؤمن، ودعا نوح ابنه إلى الله ولم يؤمن، ولكن أغلب مَن حول الأنبياء تأثروا بهم أعظم التأثر، وهو -عز وجل- يضع الخير في موضعه، وهو أعلم بالشاكرين، وهو أعلم بالظالمين.
نسأل الله أن يهدينا وآباءنا وأمهاتنا، وذرياتنا، وأزواجنا، والمؤمنين والمؤمنات.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.