كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -عز وجل-: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ . مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) (البقرة: 97-98).
قال ابن جرير: حدثنا بِشرٌ حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به، فقال لهم عمر: أما والله ما جئتُ لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه. فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطّلع محمدًا على سرنا، وإذا جاء، جاء الحرب والسنة، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء، جاء الخصب والسلم. فقال لهم عمر: هل تعرفون جبريل وتنكرون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي -صلى الله عليه وسلم-، ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ).
ثم قال: حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر عن قتادة، قال: بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يومًا، فذكر نحوه. وهذا أيضًا منقطع، وكذلك رواه أسباط، عن السدي، عن عمر مثل هذا أو نحوه، وهو منقطع أيضًا. (قلتُ: الظاهر في سبب نزول الآيات، أنها نزلت بسبب مناظرة اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأحاديث الواردة في ذلك أقوى إسنادًا، ولكن لا تعارض بين هذا وبين مناظرة عمر -رضي الله عنه- لهم، إذ يمكن أن تكون وقعت مناظرته لهم قريبًا من مناظرة اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم- فنزلتْ الآيات عند ذلك).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار، حدثنا عبد الرحمن -يعني الدشتكي- حدثنا أبو جعفر، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديًّا أتى عمر بن الخطاب، فقال: إن جبريل -الذي يذكر صاحبكم- عدو لنا. فقال عمر: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) قال: فنزلت على لسان عمر -رضي الله عنه-.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم اتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، فإنه لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية.
حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، بنحوه. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) قال: قالت اليهود: إن جبريل عدونا، لأنه ينزل بالشدة والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله تعالى: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ).
وأما تفسيرها: فقوله -تعالى-: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: من عادى جبريل؛ فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله ملكي -عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام- ومن عادى رسولًا فقد عادى جميع الرسل؛ كما أن مَن آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) (النساء: 150، 151)، فحكم عليهم بالكفر المحقق، إذ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم.
وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله؛ لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (مريم: 64)، وقال -تعالى-: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) (الشعراء: 192-194).
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن عَادَى لِي وليًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بالحَرْب"؛ ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه، فقال: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: من الكتب المتقدمة (وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين. كما قال -تعالى-: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت: 44)، وقال -تعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
ثم قال -تعالى-: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ): يقول -تعالى-: مَن عاداني وملائكتي ورسلي، ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال -تعالى-: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج : 75).
(وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم عموم الرسل، ثم خُصصا بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر، وعادى الله أيضًا؛ لأنه أيضًا ينزل على الأنبياء بعض الأحيان، كما قرن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ابتداء الأمر، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته، وميكائيل موكل بالقطر والنبات، هذا بالهدى وهذا بالرزق، كما أن إسرافيل موكل بالصور للنفخ للبعث يوم القيامة، ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام من الليل يقول: "اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". وقد تقدم ما حكاه البخاري، ورواه ابن جرير عن عكرمة أنه قال: جبر، وميك، وإسراف: عبيد. وإيل: الله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: إنما قوله: "جبريل" كقوله: "عبد الله" و"عبد الرحمن". وقيل جبر: عبد. وإيل: الله.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن علي بن الحسين، قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبد الله، قال: فتدرون ما اسم ميكائيل من أسمائكم؟ قلنا: لا. قال: اسمه عبيد الله. وكل اسم مرجعه إلى "يل" فهو إلى الله.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك. ثم قال: حدثني أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثني عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبريل في الملائكة خادم الله. قال: فحدثت به أبا سليمان الداراني، فانتفض وقال: لهذا الحديث أحب إليّ من كل شيء <وكتبه> في دفتر كان بين يديه.
وفي جبريل وميكائيل لغات وقراءات تُذكر في كتب اللغة والقراءات، ولم نطوِّل كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه، أو يرجع الحكم في ذلك إليه، وبالله الثقة، وهو المستعان.
وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين. قال: (فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ) كما قال الشاعر:
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ نَغَّصَ المَوْتُ ذا الغِنى والفَقِيرا
وقال آخر:
لَيتَ الغُرابَ غَداةَ يَنعَبُ بِالنَوى كـانَ الـغـُرابُ مُـقَــطَّـعَ الأَوداجِ
وإنما أظهر الاسم ها هنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.