كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
تمهيد:
من فضل الله علينا في "الدعوة السلفية": أن عصمنا الله من الوقوع في فتنة "ثورة الخميني" عند قيامها، ثم عند تجددها في حرب 2006م بين "حزب الله" و"إسرائيل"، حيث وقفت الدعوة السلفية ضد التيار، ورغم الضغط الهائل شعبيًّا وإعلاميًّا في تمجيد حزب الله و"حسن نصر الله"، وغيره.
وقلنا -بفضل الله- حينها: إن الشيعة الاثني عشرية فرقة مبتدعة، ولكن طالما أنهم يواجهون اليهود؛ فهم أقرب إلينا من اليهود، ولكن مع التحذير الشديد من أن يتحول هذا الانحياز الذي فرضه الخصم الآخر الكافر إلى إعجاب بالأشخاص، ثم إعجاب بالمناهج، وكان وقتها الإعجاب شديدًا؛ نتيجة أن حزب الله استطاع حينها أن يُظهِر إسرائيل بمظهر العجز، وطبيعة الحروب أن كل طرف يحاول تطوير أسلحته وقدرته، بما في ذلك أن أحدًا يكون في موقف الأقل امتلاكًا للتكنولوجيا، وغيرها، ولكنه يستطيع أن يطوِّر أسلوبًا يجاري به خصمه، وهو لا يواجه في حرب مفتوحة، إنما يتحصَّن في حصون منيعة جدًّا، ويخرج ليطلق لدغاته التي تؤلم الجيوش النظامية، ويعود مرة أخرى، وهذا الذي طَبَّقه حزب الله في 2006.
تدور الأيام، وتأتي الآن مواجهات بين حزب الله وإسرائيل، مع الفارق: أن حزب الله فَقَد بريقه بسبب الصورة الصادمة التي ظهر بها في سوريا، ومن قِبْلها في العراق؛ لكن في سوريا كان أوضح بكثير جدًّا، واتضحت دمويته تجاه أهل السُّنة، وأنهم يُعَامِلون أهل السنة أسوأ من معاملة الكفار!
وخلاصة المسألة من الناحية العقدية: أن الشيعة الاثني عشرية من الناحية النظرية، ومن الناحية العملية يرون أن الكفار أقرب إليهم مِن أهل السُّنة، وهذا ظاهر جدًّا في كلِّ صراع لهم مع أهل السنة، بل ولا يبذلون أدنى جهد في تجميل صورتهم، فكان من الممكن إذا كان حزب الله قد قرَّر أن يقاتل أهل السنة في سوريا أن يحاول -على الأقل- أن يظهر بمظهر المقاتل الشريف؛ فيقاتل مَن يقاتله، ولكن عند الأسر من الرجال والنساء والأطفال يحسنون معاملتهم، ولكنهم لم يفعلوا هذا، بل كانوا يتفننون في قتل كلِّ مَن قَدَروا عليه، وتصوير هذا ونشره! وكأنهم لا يعنيهم تجميل صورتهم.
وبالتالي الآن: تجد أنك لو قلتَ: إن 100% من أهل السُّنة في سوريا والعراق يقيمون الأفراح لمقتل حسن نصر الله وغيره، لم تكن قد أخطأتَ النسبة.
وفي المقابل: ما زالت بعض التيارات الإسلامية التي دخلتْ في حلفٍ يبدو أنه إستراتيجي إلى حدٍّ كبيرٍ مع الشيعة -(تحت وهم: أن الخلاف بين السُّنة والشيعة خلافٌ تاريخيٌّ وانتهى! وأن الشيعة الآن ينصرون القضية الفلسطينية، ونحو ذلك؛ حتى بعد أن جَدَّد الشيعة خياناتهم في العراق، وسوريا، ووثَّقوها بأنفسهم، وقاموا بنشرها)- كالإخوان -ومَن دار في فلكهم-؛ إما يصرون على العناد، وإما يعيدون تنظيرات فارغة؛ مفادها: أن مقاومة اليهود هي النقطة الوحيدة التي يُنظَر إليها في الولاء والبراء، وكل ما عداها فلا قيمة له!
وفي الواقع: هم بارعون في إعادة تحديد تلك النقطة الوحيدة التي سيدعون أنهم بنوا عليها موقفهم من (س أو ص)؛ فكم سمعناهم يقرِّرون أن مَن تلوَّثَت يده بالدماء لا يُقبَل أن تدعي بأي صورة من الصور، أن ثمة مصلحة شرعية تدفعك في التعاون معه لتحقيقها، وإلا كنتَ شريكًا في الدماء، وحسن نصر الله وحزب الله تلذذوا بسفك دماء أطفال أهل السُّنة، ومع هذا ما زال هؤلاء ينصبون له المآتم!
ونحن نكرِّر ما قلناه في 2006؛ وهو: إن الشيعة فرقة مبتدعة، ومِن شرِّ أنواع أهل البدع، ومع هذا فهم أقرب إلينا من اليهود، ومِن فرط جرائم حزب الله صار كثيرٌ من الرموز السلفية يستنكِرون علينا هذا القَدْر (أنه أقرب إلينا من اليهود).
ولكن نحن رغم جرائم الشيعة المتتابعة نرى ما قرَّره جمهور أهل العِلْم، وقرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ مِن أن الشيعة الاثني عشرية لا يُكفَّرون بالعموم، وأن الأمة كعلماء وأمراء لم يعاملوهم كما عاملوا الطوائف المتفق على أنهم ليسوا من فِرَق الأمة -كالنصيرية، والإسماعيلية، والدروز-، ولكن التعامل في كُتُب الفِرَق، والتعامل عند الفقهاء والأمراء: أنهم كانوا دائمًا ما يعاملون الشيعة الاثني عشرية على أنهم في الجملة من فِرَق الأمة.
ويمكن أن نقول: إن ابن تيمية -رحمه الله- في أكثر من فتوى دندن حول معنى يمكن التعبير عنه بمراعاة التفاوت العقدي الموجود في الفِرَق (غير المتجانسة عقديًّا).
نجد هذا في فتوى التتار، وخلاصتها: أن الواحد المقدور عليه منهم يُعَامَل بحسبه؛ لماذا؟ لأن هذه الطائفة فيها كفار أصليون، وفيها مرتدون، وفيها ناس من التتار تكلَّموا بالإسلام، وفيهم فساق، وفيهم جهال.
وقريب من هذا: أنه كلمنا عن الطوائف التي تنتشر في داخلها أفكار كفرية؛ حيث تكون الطائفة حاملة لأقوال كفرية عبر تاريخها، ولكن بالمعايشة مع هذه الطوائف لا تجد أن كلَّ منتمٍ إليها يقول بهذه الأقوال، فهنا قال: إن الشيعة الاثني عشرية، والمعتزلة عند كلٍّ منهم أقوال كفرية، لكن قد يوجد تأويلٌ يمنع من تكفيرهم.
وكان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول بعد أن ناظر المعتزلة: "لو أني قلتُ مقالتكم لكفرت، ولكني لا أكفركم؛ لأنكم عندي جهال".
وأحيانًا يحتوي كلامهم على كفر لا يحتمل التأويل؛ كالقول بأن القرآن محرَّف! واتهام أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بالفاحشة، ولكن دائمًا تجد أن هذه الأقوال مع وجودها في كتبهم؛ إلا أن هناك منهم مَن تبرأ منها، وتجد أن عوامهم الأصل فيهم عدم اعتقاد هذه الاعتقادات.
فالواجب مع هذه الطوائف أنك تراعي انتسابها للإسلام، ولا تهدر هذا الانتساب، وتنظر ما الذي ظهر من كلِّ واحد، وبالطبع في الشيعة الاثني عشرية قد تجد من يقول ببدعة غير مكفِّرة؛ فهذا مسلم، أو يقول مبتدع ببدعة مكفرة فيها تأويل؛ لا سيما التأويلات المعقدة التي حتى بعد المناظرة يبقى فيها مجال لبقاء التأويل عندهم؛ فيكون -أيضًا- مسلمًا معذورًا بجهله في عدم الحكم عليه بالرِّدَّة، وأما لو كان يقول بقول مكفِّر لا تأويل فيه، أو أقيمت عليه الحجة؛ فيكون كافرًا بعينه.
فالقضية: أن مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية -بل هو مذهب الجمهور-: أن الشيعة الاثني عشرية ليسوا كفارًا بالعموم، وكلمة كفار بالعموم تعني أن كل واحد بعينه من هذه الطائفة كافر؛ مثل: الدروز، والنصيرية، أما الشيعة الاثني عشرية فليسوا كذلك، ومَن قال بكفر الشيعة الاثني عشرية على العموم -وإن كان قد قال بهذا بعض أهل العلم-؛ فقوله ضعيف، ومُعَارَض بواقعٍ عبر تاريخ الأمة؛ إذ لم يُمنَع الشيعة الاثني عشرية من الحج، وغير ذلك، ولكن هذا الأمر فرعٌ على ذلك.
هذا باختصار موقفنا الثابت من الشيعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما تكفيرهم وتخليدهم؛ ففيه -أيضًا- للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والروافض، ونحوهم، والصحيح: أن هذه الأقوال التي يقولونها، والتي يُعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا. وقد ذكرتُ دلائل ذلك في غير هذا الموضع، ولكن تكفير الواحد المعيَّن منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارِضَ له، وقد بسطتُ هذه القاعدة في قاعدة التكفير" (مجموع الفتاوى 28/500).
وهذا يوضِّح أن شيخ الإسلام بعد أن ذكر خلاف العلماء رجَّح أن أقوالهم كفرية، بينما لا يُكفَّر المعين منهم إلا بعد إقامة الحجة.
وهذا مِن إنصاف شيخ الإسلام وضبطه لمواطن الخلاف، ومواطن الإجماع، مما ننصح به المسلمين جميعًا أن يلتزموا به؛ حتى لا نجعل مسائل وسعت السَّلَف مسائل ولاء وبراء؛ فنكون بذلك مخالفين لمنهج السلف دون أن ندري، ونحن نقول بالتفصيل الذي يقول به شيخ الإسلام -رحمه الله-.
وأما تفضيل اليهود والنصارى عليهم: فقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن ذلك؛ إذ سُئِل -رحمه الله تعالى- عن رجلٍ يفضِّل اليهود والنصارى على الرافضة؛ فأجاب: "الحمد لله، كلُّ مَن كان مؤمنًا بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو خير مِن كلِّ مَن كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة؛ سواء أكانت بدعة الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، أو غيرهم، فإن اليهود والنصارى كفار كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام، والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول -صلى الله عليه وسلم- لا مخالف له؛ لم يكن كافرًا به، ولو قُدِّر أنه يكفر؛ فليس كفره مثل كفر مَن كَذَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم-" (مجموع الفتاوى 35/ 201).
مع أن الذي يقرأ "منهاج السنة النبوية" لشيخ الإسلام ابن تيمية يعلم أن كلَّ ما نعانيه من شيعة زماننا -مِن موالاة لأعداء الله، وإعمال للسيف في أهل السنة- عاناه المسلمون في زمن شيخ الإسلام، بل أشد، ولكن أهل السُّنة كما وصفهم شيخ الإسلام: "يعرفون الحق، ويرحمون الخلق".
ولكن دائمًا ما يثار سؤال حول مدى جدية إيران في رفعها لشعار: "أمريكا هي الشيطان الأكبر"؛ بالإضافة إلى شعار: "مناصرة القضية الفلسطينية"، ومع المعرفة العقدية والتاريخية بمنهج الشيعة، وخيانات نصير الدين الطوسي، وابن العلقمي، ودورهما في سقوط بغداد، وتحالف الدولة الصفوية مع البرتغاليين ضد الدولة العثمانية، وغيرها كثير؛ فقد كان الكثير من العلماء والدعاة يقولون: إن الذي يجري بين أمريكا وإسرائيل من جهة، وبين إيران وحلفائها من جهة، هو تمثيلية محبوكة على أهل السُّنة، وأن التنسيق يجري بنسبة 100%.
وهذا نوع من الاختصار أو -بصورة أدق- تركيز على الجزء الذي يهمك من الصورة، ولكن ثمة مواقف تحتاج لشرحها أن تذكر الصورة كاملة؛ نعم، قد يكون الجزء الأكثر أهمية: بيان أن الشيعة يتحالفون مع كلِّ أحد ضد أهل السُّنة، وهذا واقع فعلًا الآن مِن أن إيران وأمريكا حلفاء في أفغانستان، وفي العراق، وفي غيرها.
وهذا لا يمنع أن بينهم صراعًا على مصالح أخرى؛ وذلك أن إيران تدرك أن الغرب يحتاج إليها؛ لحصار وإضعاف بلاد السُّنة، وإثارة الفتن فيها، وهي تريد أن تستثمر هذا في أن تجعل من نفسها دولة عظمى، أو -على الأقل- دولة عظمى إقليميًّا، وهذا الذي لا يمكن للغرب أن يرضى به؛ لا سيما مع استحضار الصراع الطويل الذي كان يدور على السيطرة على العالم بين الفرس والروم.
وبالتالي يمكننا أن نقول: إن علاقة إيران بالغرب أنهم باعتبارهم شيعة فهم حلفاء للغرب ضد أهل السُّنة، وأما باعتبارهم فرسًا فهم منافسون لهم.
ولكن سوف يُستشكل على هذا الطرح باستشكالين:
الأول: أن أمريكا هي من صنعت ثورة الخميني.
الثاني: مناصرة إيران للقضية الفلسطينية.
أما الأول: فخلاصته: أن أمريكا كانت تريد معاقبة الشاه محمد رضا بهلوي؛ رغم أنها كانت تعده أحد أبرز حلفائها في المنطقة، وكانت بلاده من أوائل البلاد الإسلامية اعترافًا بإسرائيل؛ حيث اعترفت بها إيران سنة 1950م؛ إلا أنه أراد التقارب مع العرب بسفينة بترول أرسلها لمصر في حرب العاشر من رمضان، فبيَّتت أمريكا النية لعقابه؛ إلا أن العامل الأكبر هو فشله في إدارة البلاد، ووجود ثورة شعبية حقيقية يقودها تيار اشتراكي موالٍ لروسيا، وتيار الشيعة الأصوليين الذي كان الخميني قد أصبح أكبر رموزه في ذلك الوقت؛ بالإضافة إلى تيار شيعي منفتح على الليبرالية، وتيار ليبرالي قح، والتيارين الأخيرين لم يكن لهما رصيد شعبي؛ فلم يكن أمام أمريكا خيار إلا دعم الخوميني قبل أن تقع السلطة في يد الاشتراكيين الموالين لروسيا.
لقد كان خيارًا مؤقتًا ثم تحوَّل إلى خيار طويل المدى؛ ذلك أن أمريكا وجدت أن إزاحة رجال الدِّين الشيعة من الحكم في ظل قوة سيطرة المؤسسات الدينية الشيعية على العامة أمر صعب جدًّا؛ كما أنهم وجدوا أن الشيعة يعادون السُّنة باعتبارين: ديني نابع من كونهم شيعة، وقومي نابع من كونهم متعصبين للفرس، وبالتالي فهم نسخة أخرى من إسرائيل الذي يكرهون مَن حولهم مِن البلاد الإسلامية باعتبارين -أيضًا-: ديني، قومي.
وإنما قلنا: إنه خيار طويل المدى، وليس خيارًا إستراتيجيًا بالنسبة لأمريكا؛ لأن أمريكا تدرك الطموحات الفارسية التي عندهم، ولكنها تريد أن تؤجل هذا إلى أن يؤتي الحِلْفُ الذي بينهما أُكُلَه في تدمير بلاد السُّنة.
(وسوف نتناول في مقالة أخرى -بإذن الله- تعريفًا موجزًا بتاريخ إيران منذ قيام الدولة الصفوية إلى قيام الثورة الخمينية).
وأما الأمر الثاني: فقد يقال: إن الشعارات التي أطلقها الخميني في بداية الثورة الإيرانية من أنها ثورة إسلامية وليست شيعية، وأنها ستجعل قضية القدس قضيتها؛ فأمر من السهل إدراك أنه كان نوعًا من المتاجرة بالشعارات ريثما تستقر له الأوضاع.
ولكن يبقى أن إيران -فيما بعد- قدَّمت بالفعل دعمًا لجماعات المقاومة في فلسطين، وهذا أمر تشهد به الفصائل التي تقوم بالجهاد ضد العدو الصهيوني؛ حماس، وغيرها.
صحيح أنهم صرَّحوا أيضًا أن إيران كانت تطلب أمام هذا الدعم ثناءً، بل من الواضح جدًّا أن الثناء أضعاف أضعاف الدعم، ولكن في النهاية هناك دعم.
إذًا إذا كانت إيران وأمريكا يتحالفان علنًا في أفغانستان والعراق؛ فبماذا نفسِّر أنها تختلف أحيانًا؟
وإذا كان تفسير حلفهما أنه موجَّه ضد أهل السُّنة؛ فكيف نفسر الدعم الإيراني لجماعات المقاومة في فلسطين؟
أحد التصورات أن يُقال: هم حلفاء، وكل الباقي "تمثيلية".
وهذا تحليل ليس مستبعدًا ابتداءً، ولكن التحليل لا بد أن ينطلق من الحقائق أولًا، وأن يكون ما تنسبه افتراضًا لأحدٍ متماشيًا مع ما يُعرف عنه، وأن يكون قادرًا على تفسير الظاهرة من كل جوانبها، وفي النهاية، فتحليل "التمثيلية" يبقى أحد احتمالات حل التناقضات الموجودة على الساحة.
ولكن كيف تكون تمثيلية وقد تكبَّدت إسرائيل خسائر حقيقية من صواريخ حزب الله في 2006؟ والكلام ليس في تأثيرها المباشر بمقدار ما سببه من كسر لهيبة إسرائيل، والمستوطنات التي فَرَّ منها أهلها؟!
لو كانت تمثيلية، وجلسوا اتفقوا مع بعضهم؛ فما الذي يدعوهم أن يتفقوا على شيء مؤلم كهذا؟! وكذلك مقتل سليماني، ومقتل حسن نصر الله.
وأما التواصلات في ضبط ردة الفعل أو تنسيقها؛ فأمر يحدث كثيرًا، وإمكانية الإخراج التمثيلي فيه واردة، لا سيما في حالات الصراع غير المنطقي؛ كما في حالة إيران والغرب، فما زال ما يجمعهم من عداء السُّنة أكثر مما يفرِّقهم من المنافسة.
وإذا كانت مساعدة إيران (المحدودة) للفصائل الفلسطينية ليست تمثيلية، فما تفسيرها؟
بيَّنَّا أن هناك التقاء مصالح بين الغرب وإيران ضد أهل السُّنة، وهذه مصلحة كبرى للصهاينة؛ لأن المشروع الصهيوني غير مكتمل؛ هو لن يكتمل إلا بإسقاط القوى العربية التي تمتلك جيوشًا قوية، وعلى رأسها: مصر، والعراق، وسوريا (وقد تمَّ في العراق وسوريا -يا للأسف-، ونسأل الله أن يحفظ مصر، وسائر بلاد المسلمين).
إيران بدورها مستمتعة بهذا الحلف، لكنها تعرف أنها في النهاية، لو أنهت مهمتها سيُضحِّي بها الغرب، وبالتالي تريد أثناء التحالف أن تطور قوتها كي تكون لاعبًا مستقلًا، أو -على الأقل- تحمي نفسها؛ فهناك صراع بين رغبة إيران أن يكون لها قوة ونفوذ، وبين معارضة أمريكا لهذه الرغبة.
ولأن أمريكا تستطيع أن تطول إيران عبر الصواريخ العابرة للقارات، وعبر أسطولها، فقد قررت إيران أن يكون لها أذرع بجوار إسرائيل.
وأول ذراع جاء في لبنان، وبدأ تكوينه قبل الثورة الإيرانية من خلال رجل دين إيراني اسمه موسى الصدر، الذي قرَّر أن يعمل شبه دويلة شيعية في جبل عامل بلبنان، وهي منطقة يسكنها عدد كبير من الشيعة، وهم محرومون من التعليم ومن كل شيء؛ فذهب وقادهم بثورة اجتماعية لإصلاح أحوالهم، وأسس "حركة أمل"، وهي حركة ضَمَّت كل الشيعة، حتى غير المتدينين، وغير المعترفين بمرجعية إيران.
بعد قليل، انتقوا منهم المتدينين المؤمنين بمرجعية إيران وأسسوا حزب الله.
وبعد مؤتمر مدريد للسلام، وكل الدول العربية قالوا: إنهم يريدون السلام؛ فوجدتها إيران فرصة سانحة جدًّا أن تمد يد العون؛ بغض النظر كم هو مقداره، ولكن أن يكون معها ورقة، وورقة خطيرة جدًّا؛ هذا في داخل الصراع الصهيوني مع العرب داخل فلسطين نفسها، وفي ذات الوقت تلمع نفسها أمام الشعوب السنية مما يسهل عملية التشييع التي تقوم بها إيران في كل العالم الإسلامي تقريبًا.
وبالتالي: تم دعم القضية الفلسطينية -التي تتعرض لمد وجزر-، ومؤخرًا تم تداول مكالمة صوتية لموسى أبو مرزوق، أحد قيادات حماس فيها: أن إيران لم تقدم دعمًا منذ 2009.
وفي ظني: أن صمود حزب الله في 2006 أمام إسرائيل؛ بالإضافة إلى الحوثيين في اليمن، وكذلك أذرعهم في العراق؛ أغراهم أن يكتفوا بالأذرع الشيعية، وأن يقصِروا الدعم المقدَّم للفصائل السنية على الضجيج الإعلامي فقط.
ولعل من المفيد أيضًا أن نناقش السؤال المطروح دائمًا: هل يقوم حزب الله بحراسة البوابة الشمالية لإسرائيل؟ وهل ترحب إسرائيل بوجوده؟
والإجابة: أن هذا الكلام صحيح باعتبار، ويحتاج إلى توضيح باعتبار آخر.
فالجنوب اللبناني قبل سيطرة حزب الله عليه كان منطلقًا لمقاومين فلسطينيين ولبنانيين، وغيرهم، ينطلقون منه في عملياتهم ضد إسرائيل، وعندما سيطر عليه حزب الله منع كل هؤلاء منعًا تامًا.
وبالتالي، فإسرائيل لو كانت مخيَّرة بين حزب الله وبين أي فصيل مقاوم آخر، ستختار حزب الله؛ لأن الفصيل المقاوم الآخر، بالذات لو كان فلسطينيًّا؛ مشكلته مع إسرائيل قائمة دائمًا، بينما حزب الله لا ينازع إسرائيل إلا إذا كان هناك خلاف إيراني أمريكي، وبمجرد حل الخلاف تهدأ الأمور.
ومع هذا، فلما وجدت إسرائيل فرصة سانحة للتجسس عليه وقتل قياداته، بل وقتل أمينه العام، وبالتالي "قصقصة ريشه"، ومحاولة دفعه لما وراء نهر الليطاني؛ فها هي تفعل.
نسأل الله أن يحفظ فلسطين، ولبنان، وأن يحفظ بلادنا، وسائر بلاد المسلمين.