كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123).
الفائدة التاسعة:
قوله -تعالى-: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): تضمَّن إثبات الهداية، ونسبتها إلى الله -سبحانه-؛ فالله وحده مالك القلوب، وهي كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وهو -سبحانه- وحده الذي يخلق الهدى في قلب العبد، ويثبِّته عليه، والهداية أنواع؛ فمنها: الهداية العامة لجميع الكائنات بما يصلحها ويناسبها؛ قال -تعالى-: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى . قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى . قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) (طه: 49-51).
وقال سبحانه و-تعالى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى: 1-3)، فهدى كلُّ مخلوق إلى ما يناسبه في طعامه وشرابه وقوته، وكيف يأتي الذَّكر أنثاه؛ لتحصيل التناسل والتكاثر، وحفظ النوع، وهدى كل خلية داخل الحيوان، بل والنبات لما فيه استمرار حياتها وحياة صاحبها، وهذه الهداية من أعظم أدلة وجود الرب -سبحانه وتعالى- لمن تأملها.
وتأمل قطة عجماء، تشم سمكة سامة لو أكلها الإنسان لمات وليس في رائحتها إلا ما في رائحة السمك، وتجد القطة تتركها مع كونها تأكل غيرها!
وغير ذلك أضعاف مضاعفه؛ ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "شفاء العليل" أنواعًا منها، وهي تنتشر في عالم البر والبحر، بل وعالم النبات كذلك، وعالم النجوم والفلك، فكلها تجري بتقديره وهدايته -سبحانه وبحمده- فتبًّا للجاحدين الملاحدة!
والنوع الثاني من الهداية: هداية البيان والإرشاد؛ قال -تعالى-: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد: 10)، وقال -تعالى-: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (فصلت: 17)، فهو -سبحانه وتعالى- هدى كل إنسان مكلَّف طريق الهدى، وطريق الضلالة، وهذا من خلال دعوة الرسل، وجعل في الفطرة والعهد السابق الذي أخذه والناس في ظهر أبيهم آدم ما يؤيد دعوة الرسل؛ قال الله -عز وجل-: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (الأعراف: 172)، أي: ذكرناكم بذلك على ألسنة الرسول؛ لكي لا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، وقال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ) (متفق عليه).
وفي رواية في الصحيح: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ) (رواه مسلم)، فجعل الله -سبحانه- في العهد الأول، وفي الفطرة ما يؤيد دعوة الرسل، ويؤكد صحتها، فكأنها نسخة مركوزة في القلب، موافقة لدعوة الرسل إلى التوحيد والإقرار بالربوبية والألوهية، ثم بصحة دعوة الرسل الكرام، فإذا جاءت دعوة الرسل صادفت محلها، فمن قَبِلَها أيقن بصحتها، ومطابقتها لما في القلب، ومَن ردَّها تقطَّع قلبه، وشقي في الدنيا، وفسدت فطرته، وظن الحق باطلًا والباطل حقًّا بعد أن عَلِم الحق أول مرة: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام: 110)، فعند ذلك ظَنَّ الحقَّ باطلًا، والباطل حقًّا؛ فأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، وقامت عليه حجج الله كلها.
ومن محبته -سبحانه وتعالى- للعذر: لم يجعل ميثاق الفطرة، والميثاق يوم أَخَذَه على البشرية -وهم في ظهر آدم بعد أن استخرجهم من ظهره-، لم يجعلهما حجة مستقلة، بل جعلهما حجة بعد أن تبلغهم دعوة الرسل؛ قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم: 4).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ) (متفق عليه).
فيا خسارة مَن يكرهون العُذْر الذي يحبه الله، ويكفِّرون المسلمين دون قيام الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها، ثم يتجرؤون على سفك الدماء المعصومة بغير حقٍّ؛ خصوصًا الذين يكفِّرون المسلمين بالعموم، بشبهات هي أوهي من بيت العنكبوت!
فأحبوا -يا عباد الله- العذر الذي يحبه الله، وجعله مرتبطًا ببلوغ دعوة الرسل، ومعرفة الكتب التي أنزلها؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الأنعام: 19).
فمَن بلغه القرآن فهو المنذر؛ وإلا فهو معذور؛ إجمالًا في الإجمال -أي: إذا لم يبلغه القرآن أصلًا، ولا دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فهو معذور أَنْ لم يؤمن بها-، وتفصيلًا في التفصيل -أي: إذا لم يبلغه تفصيل ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد آمن به مجملًا، لم يكفَّر حتى يبلغه التفصيل آية آية، وحديثًا حديثًا-.
ولما كان هذا النوع من الهداية يتم من خلال الرسل، أثبته الله لهم؛ فقال -تعالى- لنبيه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52)، مع أنه -سبحانه- نَفَى عنه هداية التوفيق والإسعاد، وخَلْق الهدى في قلبِ مَن يحبُّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال له في شأن عمه أبي طالب -وقد مات على الكفر-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) (القصص: 56).
وللحديث بقية -إن شاء الله-.