الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 25 سبتمبر 2024 - 22 ربيع الأول 1446هـ

ما حملك على ما صنعتَ؟

كتبه/ وائل رمضان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

للإسلام منهجه القويم في الحكم على الأحداث والمواقف وفهمها، والتكلم فيها، فالتثبت من كل خبرٍ ومن كل موقف أو حدث، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج، لم يبقَ مجال للوهم أو الظن أو الشبهة، ولم يبقَ مجال للأحكام السطحية، والفروض الوهميةِ، وإنَّ التفريط في هذا المنهج العظيم، الذي أوصى الله به عباده المؤمنين، وحث عليه نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- لمِن أعظم أسباب الفرقةِ والعدوان والبغضاء.

أكثرنا يعلم قصة حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-، حين أرسل خطابًا لقريش يخبرهم بعزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسير إليهم، فلما أطْلَع الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- على الأمر، أتى -صلى الله عليه وسلم- بحاطب وبدأه بالسؤال: (يَا ‌حَاطِبُ، ‌مَا ‌حَمَلَكَ ‌عَلَى ‌مَا ‌صَنَعْتَ؟) (متفق عليه).

إن هذه العبارة لم تكن جملة عابرة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل كانت منهجًا تربويًّا وسلوكًا نبويًا، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- دائمًا ما يسأل صاحب الشأن: لِـمَ فعل ذلك؟ قبل أن يحكم عليه أو يتخذ بشأنه أمرًا.

ومن ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرَّ برجلٍ يبيعُ طعامًا قد خلط جيدًا بقبيحٍ، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: أردتُ أن ينفقَ، فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ميِّزْ كلَّ واحدٍ منهما على حِدَتِه، فإنه ليس في ديننا غشٌّ.

وفي قصة اليَهوديَّة التي أهدت للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاةً مسمومة، فلما علم -صلى الله عليه وسلم- بذلك أرسل إليها، فقال: "ما حملَكِ على أن أفسدتِها بعدَ أن أصلحتِها؟ قالَت: أردتُ أن أعلمَ إن كنتَ نبيًّا فإنَّكَ ستعلمُ ذلِكَ، وإن كنتَ غيرَ نبيٍّ أرحتُ النَّاسَ منْكَ" (مسند البزار).

بل إن ربّ العزة -سبحانه وتعالى- تعامل بهذا المبدأ مع عباده؛ فقد كان رجلٌ يُسرِفُ على نفسِه، لمَّا حضره الموتُ قال لبنيه: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: ‌مَا ‌حَمَلَكَ ‌عَلَى ‌مَا ‌صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: ‌خَشْيَتُكَ ‌يَا ‌رَبِّ أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ) (رواه مسلم).

فأين نحن من هذا المنهج القويم؟ ولا سيما في تلك الأزمنة التي كثرت فيها الشائعات، وقل فيها التثبت، تجد أحدهم يسمع عن أخيه شيئًا، فيفعل كل شيء إلا أن يسأله: ما حملك على ما صنعتَ؟ يُصدر عليه الأحكام، ويرتب على فعله اللوازم، وتدب إليهما القطيعة والبغضاء، وينزغ بينهما الشيطان، ولو اتبع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسأله: ما حملك على ما صنعتَ؟ لربما كفاه كل هذا؛ فإما أن يجد الأمر على غير ما يظن، وإما أن يجد عذرًا يعذر به أخاه.

إنَّ هذا المنهج النبوي الرشيد، الذي جاء في خمس كلمات: "ما حملك على ما صنعتَ؟"، كم يُزيل من لَبْسٍ! وكم يرفع من خلافٍ! وكم يقرِّب من قلوب! وكم يحقن من دماء! ولو أنَّا وعَيناه لسَلِمت القلوبُ من الضغائن، ولدام الودّ والوئام، وانتفت الوحشة والخصام، ولَتعافينا من عيوب كثيرة.

والله المستعان.