كتبه/ غريب أبو الحسن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كسر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البروتوكول التركي الذي يقضي بأن يستقبل الرئيسُ التركي الرؤساءَ الضيوف في القصر الرئاسي، وذهب واستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في المطار فور وصوله لتركيا، ثم استقبله استقبالًا حافلًا، وشهدا توقيع الكثير من العقود التجارية والاقتصادية، ثم تحدثت التقارير عن تعاون مصري وتركي في ملف ليبيا والصومال، ووساطة تركيا في ملف إثيوبيا وسد النهضة، وتفاهم مصري تركيا حول ملفات ومصالح البلدين في إفريقيا.
ولا يوجد عاقل يعترض أو يستاء من هذا التقارب الذي يحقق مصالح أكبر دولتين إسلاميتين في الإقليم الذي يقبع على صفيح ساخن، والذي يشهد صراعًا متزايدًا على النفوذ؛ في حين تحاول إيران وإسرائيل التحكم في مجريات الأمور في الشرق الأوسط، ولا تعدو تلك الشجارات الكلامية بين البلدين كونها سبابًا بين اثنين من اللصوص على نصيب كلٍّ منهما بعد السرقة!
فالتقارب المصري التركي يرحِّب به كلُّ حريص على مصالح دولنا العربية والإسلامية، وكل متخوف أن تخرج الدول السُّنِّيَّة وقد خسرت المزيد من عواصمها على يد إيران أو إسرائيل.
ففي حين أن إيران تتحكم في أربع عواصم سنية، تتحكم إسرائيل في القدس، والتي هي تجمع بين كونها عاصمة فلسطين ومسرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأولى القبلتين، وثالث المساجد الثلاثة؛ فإيران وإسرائيل في سباق محموم على مَن يبسط نفوذه على منطقة الشرق الأوسط؛ لذلك فقد يُشكّل ذلك التقارب المصري التركي نقطة فارقة في هذا الصراع المحموم على أشلاء أمتنا، ولعل التقاء مصالح البلدين الكبيرين يكون إيذانًا لتعاون أكبر يكون في صالح الإقليم الذي لا يعرف الهدوء.
ولكن لحظة...! ففي خلفية تلك الصورة تقف جماعة "الإخوان المسلمين" تتأمل في أناملها، ثم تنظر بعيدًا هناك في الجهة الأخرى، وكأن الحدث لا يعنيها من قريب أو بعيد! وشأنها شأن الهارب من رسوم الركوب في القطار، والذي يتمنى ألا يراه المحصِّل حين مروره!
وذلك لأنه بالأمس القريب كانت جماعة الإخوان المسلمين تعقد الولاء والبراء على الموقف من الرئيس التركي، وكانت تروج بين السذج أنه خليفة المسلمين، وناصر المستضعفين، وقِبْلَة المظلومين؛ حتى إن اعضاء الجماعة قد هرولوا نحو تركيا من بعد قطر واعتبروها ملاذهم الآمن ومستقرهم الوطيد. وشن رموز جماعة الإخوان ومن خلفهم لجانهم الإلكترونية حملة لا هوادة فيها على مصر، وعلى كل مَن لم يقف معهم في مواقفهم السياسية، والتي كانت دائمًا ما تُوصَف بالغباء، ثم اتهمت الجماعةُ بالخيانة مَن قدَّم لها النصح، وحاول تقديم المبادرات لخروج البلد من الأزمات التي تسببت فيها الجماعة.
ثم عندما تأزمت الأمور اتهمت جماعة الإخوان كل من حضر عزل الرئيس السابق "محمد مرسي" بالخيانة، وابتزت الجماعة كل من لم يقف معها في مواقفها السياسية الفاشلة، أو ممارستها العنف والصدام، وقالت: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا!"، بل اعتبرت الجماعة أن مَن لم يوافقها في صدامها مع بلادها أنه قد خان الله ورسوله!
واعتبرت كل من شارك في أي استحقاق سياسي بعد عزل الرئيس محمد مرسي أنه خائن، فمن "دستور الدم!" إلى "برلمان الدم!"، ولم يترك "عمال اليومية" المستأجرون لديها من مشاهير السوشيال ميديا، ولا لجانها الإلكترونية فرصة إلا وابتزوا الجميع! فما إن تحل مصيبة بالبلاد أو أزمة اقتصادية أو حتى تغير في درجة حرارة الجو إلا سارعت جماعة الإخوان ولجانها باعتبار أن ذلك كله عقوبة على الصمت والرضا بالدماء التي سالت.
ثم اتهمت كل من لم ينزل "رابعة" بالخيانة، ثم اتهمت كل من لم يشارك في المظاهرات التي تلت فض رابعة بالخيانة، ثم اتهمت من صمت بالخيانة وقالت: "إنه شيطان أخرس!"، وأغرقتنا لجان الإخوان الإلكترونية بالسؤال الذي تكرر مئات الآلاف من المرات وربما أكثر: "أين كلمة الحق عند سلطان جائر"؟
لم تترك جماعة الإخوان أحدًا -إلا من وافقها على صدامها مع بلادها-؛ فلا المشارك في الحياة السياسية لغرض الإصلاح سلم، ولا المعتزل سلم، ولا الصامت سلم! الكل قد ناله من قبيح الألفاظ والإساءة ومن الدعوات بالويل والثبور ومن تشويه السمعة؛ لم يسلم منها إلا من وافق مواقفها ورضي أن يكون وقودًا لمعاركها في سبيل عودتها إلى السلطة.
أما "أردوغان"؛ فعلى العكس من ذلك، ورغم أن الرجل قد صرَّح وهو في زيارته لمصر إبان ثورة 25 يناير أن العلمانية هي الإسلام! ورغم ان الرجل قد تخلص من كل خصومه السياسيين، ورغم أن الرجل قد سام جماعة "كولن" سوء العذاب؛ إلا أنهم لم يوجهوا إليه أي انتقاد! بل على العكس كانت تنهال عليه عبارات المدح لا لشيء إلا لأنه كان يؤيد جماعة الإخوان في مواقفها، حيث كان يراها حصان طروادة الذي سيعيد له الإمبراطورية العثمانية من جديد، ولكن ها هو أردوغان يستقبل الرئيس السيسي استقبالًا حافلًا، ويعقد معه الصفقات الكبيرة ويبشر بمزيد من التقارب.
ثم فتشنا عن الإخوان فلم نسمع لهم ركزًا؛ فلم نجد أو نسمع لهم تصريحًا أو استنكارًا، أو حتى تعليقًا لا تجد!
وحقيقة لا أنتظر تعليقًا من جماعة الإخوان، فجماعة الإخوان تعلم جيدًا ما تصنع، وهي تعلم أنها باغية تمارس الكذب والتشويه وقلب الحقائق كي تحقق نصرًا سياسيًّا على خصومها ولو بالكذب.
ولا أنتظر حتى إفاقة من منتسبيها؛ فهم قد شاركوا في كل ما سبق، وهم أدواتها التي تطلقهم على خصومها بلسان سليط فاحش، أو ابتزاز رخيص متهافت، وهم قد تشبعوا أن أخلاق الإسلام إنما تمارس داخل الجماعة، أما خارجها فإن هذا المجتمع الجاهلي كلأ مباح!
ولكني أبحث عن ذلك الإسلامي الذي سار خلف الإخوان وأيدهم، وسلَّم عقله وقلبه للجماعة؛ أعلم أن منهم القتيل والسجين والطريد، وأنا أوجه كلامي هنا لمن أنجاه الله من كل هذا، ولا زال يسير خلف تلك الجماعة!
الآن وبعد كل ما تراه؛ هل كان السير خلف الجماعة يستحق صلات الرحم التي قطعتها؟ والعلماء الذين نلت من لحومهم؟ وإخوانك الذين شاركت معها في النيل من حرماتهم؟!
ألا تدرك الآن أن الأمر لم يعدُ أن يكون صراعًا على السلطة استُخدِم فيه سلاح العاطفة؟!
سلاح العاطفة التي أسيلت من أجلها دماء لتخرج تطلب بثأرها!
سلاح العاطفة التي شوهت بسببها سمعة دعاة وعلماء لتخرج لتسبهم!
سلاح العاطفة التي مُجِّد بسببها رؤساء لتخرج وتهتف بأسمائهم، وتعطيهم أرفع الأوسمة حتى الشرعي منها مثل لقب: الخليفة!
لقد آن لكل مخدوع أن يبصر الحقيقة، وأن يفيق وهو يرى كيف تصمت جماعة الإخوان حين يكون الصمت في صالحها، وكيف تتهم غيرها بالخيانة عندما يكون صمتهم في غير صالحها! فالجماعة تتمحور حول مواقفها، وحول من يوافق مواقفها.
آن لمن كان مخدوعًا وعادى مجتمعه واتهمه بالجاهلية أن يترك ذلك الفكر، وذلك التصنيف، وأن يعرف الحق ويرحم الخلق، وألا يستعلي على مجتمعه؛ فربما كان مجتمعه أحدَّ منه بصرًا، وأقرب منه للحق.
آن أن يتخلص المخدوعون من تلك المظلومية التي تجيد جماعة الإخوان تقمصها، وألا يقبلوا ما تقوم به جماعة الإخوان -ومن وافقها من تيارات الصدام- من محاولة جر المخدوعين لدوامة من الخصومة والعداء مع أي سلطة لا يكونون هم جزءًا منها.
آن لك أيها المخدوع أن تترك النظرة الإخوانية فيما تبقى من أمور، وستبصر الواقع على حقيقته، كما تبصر الآن أردوغان وقد خلع ثوب أمير المؤمنين وارتدى ثوب المصلحة التركية.
كنا ننتظر من الإخوان حملة شعواء وكرة نجلاء على أردوغان.
كنا ننتظر من لجان الإخوان عبارات منحوتة؛ مثل: "أردوغان الخائن العميل"، أو خطابًا متخشعًا لأردوغان يقول: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا!".
أو دعوات واثقة على أردوغان: "ربنا يحشرك مع السيسي"، أو "ربنا يحرق قلبك على عيالك زي قلوب أهالي رابعة"، أو صراخًا لأردوغان: "دماء رابعة في رقبتك".
أو أن تخرج هاشتاجات عن زيارة السيسي، مثل: #زيارة_الدم.
أو عبارات الابتزاز الشهيرة والتي لا يطبقها مئات الآلاف من الإخوان الموجودين في مصر، ولكن يبتزون بها غيرهم: "أين كلمة الحق عند سلطان جائر".
يا إلهي.. ! لحظة.. إن أردوغان نفسه هو سلطان، ويملك من السلطة ما يمكنه من قول كلمة الحق، ولكنه لم يفعل!
ومع ذلك لا يبتز الإخوان بهذه الكلمات إلا السذج من أبناء التيار الإسلامي!
ثم أفقت من أحلامي وأنا أعلم أن الإخوان سوف يمررون الزيارة، ولن يعلقوا عليها؛ لأن مصلحة الجماعة في الصمت؛ مصلحة الجماعة في ابتلاع كل تلك الشعارات التي خوَّنوا وكفروا بها الفئام العظيمة من المصريين.
فرحم الله مَن سار خلف شعارات الجماعة حتى لقي حتفه، وغفر الله لمَن سار خلف شعارات الجماعة حتى قيِّد خلف القضبان، وهو يظن أنه ينصر الإسلام والمسلمين، وأعان الله كل مَن نجا مِن كل تلك المهالك ليبصر حقيقة تلك الشعارات، وكيف أن هذه الشعارات كالعجينة يشكلها الإخوان حسب أهوائهم؛ فتارة يجعلون منها سيفًا مسلطًا على المخالفين، وتارة يبتلعونها ولا تسمع منهم حتى الهمسات!