كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 72).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيرها: "وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم يهاجروا في قتال ديني، على عدو لهم فانصروهم، فإنه واجب عليكم نصرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدين؛ إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار، (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) أي: مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم" (تفسير ابن كثير).
فدلَّت الآية على أن نصرة المستضعفين واجبة على إخوانهم ما استطاعوا ذلك بحسب الممكن والمتاح، والنصرة من مقتضيات الإيمان؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، وهذا عقد عقده الله بين المؤمنين أنه إذا وجد من أي شخص كان في مشرق الأرض ومغربها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ فإنه أخ للمؤمنين أخوة توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا ما يكرهون لأنفسهم، وقال -صلى الله عليه وسلم- مؤكدًا هذه الأخوة وأثرها: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِي الرَّأْسِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (يَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَقْصَاهُمْ) (رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح").
قال الخطابي -رحمه الله-: "معنى اليد: المعاونة والمظاهرة؛ إذا استنفروا وجب عليهم النفير، وإذا استنجدوا أنجدوا ولم يتخلفوا ولم يتخاذلوا" (معالم السنن).
ونصرة المسلمين من مقتضيات عقيدة الولاء والبراء؛ قال الله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة: 71).
قال البغوي -رحمه الله-: "(أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ): في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون والنصرة" (تفسير البغوي).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "يتناصرون ويتعاضدون" (تفسير ابن كثير).
وليست عقيدة الولاء متونًا تدرس فحسب، بل عقيدة تطبق وهي أوثق عرى الإيمان كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْمُوَالَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي اللَّهِ، وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، كذلك كما يحرص المسلم على البراء من الكافرين؛ فإنه يجب عليه موالاة المؤمنين، ومنها: نصرتهم بما يمكنه، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ) (رواه مسلم).
فالنصرة كشريان يتدفق بالحياة ويغذي أطراف الجسد المسلم، وينفخ فيه الروح، وبدونها يفقد الجسد حيويته، ويصيبه الترهل والهزال، وهي من أسباب محبة الله لعبده، كما في الحديث القدسي: (وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي) (رواه أحمد بسند صحيح).
وهى من أسباب نصرة الله لعبده في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن نَصرَ أَخاهُ بالغَيبِ نَصرَه اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ) (متفق عليه). وفي رواية: (وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ) (رواه مسلم). والخذلان: ترك الإعانة والنصرة.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "(وَلَا يُسْلِمُهُ): أي: لا يتركه مع مَن يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه… وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا بحسب اختلاف الأحوال" (فتح الباري).
وفي المقابل: (مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
قال في عون المعبود: "والمعنى ليس أحد يترك نصرة مسلم مع وجود القدرة عليه بالقول أو الفعل عند حضور غيبته أو إهانته أو ضربه أو قتله؛ إلا خذله الله".
وقال شيخ الإسلام: "نصر آحاد المسلمين واجب بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا) (متفق عليه)".
ومن الأحاديث المرعبة "بل المفزعة" من خذلان المسلمين: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أُمِرَ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ أَنْ يُضْرَبَ فِي قَبْرِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ وَيَدْعُو حَتَّى صَارَتْ جَلْدَةً وَاحِدَةً، فَجُلِدَ جَلْدَةً وَاحِدَةً فَامْتَلَأَ قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ عَنْهُ قَالَ: عَلَامَ جَلَدْتُمُونِي؟ قَالُوا: إِنَّكَ صَلَّيْتَ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَمَرَرْتَ عَلَى مَظْلُومٍ فَلَمْ تَنْصُرْهُ) (رواه الطحاوي في مشكل الآثار، وقال الألباني: "حسن لغيره").
ثم إن التقصير في نصرة المسلمين من أسباب الفساد والفتن: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73)؛ أي: إن لم تفعلوا ما آمركم به من التعاون والنصرة على الدين تكن فتنة في الأرض.
وقال ابن كثير -رحمه الله: "أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت الفتنة في الناس؛ وهي: التباس الأمر واختلاط المؤمن بالكافرين، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل".
فليست الفتنة إذًا في تعليم الناس عقيدة الولاء والبراء لتحقيقها في الواقع بالتبري من الكافرين وبغضهم؛ إنما الفتنة في ترك ذلك وصرف هذه المعاني للمؤمنين، وقصد الكافرين بالحب والنصرة والموالاة.
فإن لم يكن أهل الإسلام أهلًا للنصرة فمَن؟!
أويكون ذلك من الكافرين ويتركه المسلمون؟! قال الله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)؛ فعلى المسلم أن يسعى بما أمكنه لنصرة إخوانه، فمن أمكنه الكون معهم فعل، ومَن لا؛ فبنصرهم بالمال، فإن كان مقلًّا؛ فلا أقل من الدعاء لهم، والتألم لآلامهم، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
اللهم نصرك الذي وعدت، وبأسك الذي لا يرد عن الكافرين.