كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق: أن اليهود الذين سكنوا المدينة، كانوا قد أتوها؛ لأنهم فروا من بختنصر، وكان قد قَتَل في يوم واحد 7 آلاف يهودي من بني إسرائيل، وهدم المسجد الأقصى الذي بناه أولًا إبراهيم أو إسحاق أو يعقوب أو هم جميعًا -عليهم الصلاة والسلام-، ثم بناه سليمان -صلى الله عليه وآله وسلم-، فاليهود اختاروا المدينة من أرض العرب ليفروا إلى أبعد مكان لا ينالهم فيه بختنصر، ولا يطاردهم فيه حيث الصحراء المجدبة المقفرة، والأرض السبخة -أي: التي لا تصلح للزراعة- الفقيرة التي لا أحد فيها.
ولكونهم كانوا يعرفون أن المدنية هي مهاجر نبي آخر الزمان -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن عندهم نص في التوراة ما زال موجودًا إلى يومنا هذا؛ قرأه هؤلاء الكذبة المكذِّبون للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللأنبياء؛ فيه: "جاء الرب من سيناء، وأشرق من سعير، وتلألأ من جبال فاران".
وسيناء كما يقول هذا النص في (سفر التثنية 33 : 2)، هي الموضع الذي كلَّم الله فيه موسى -عليه السلام-، وسعير جبل ببيت المقدس، وهو الموضع الذي أوحى الله فيه إلى عيسى -صلى الله عليه وسلم- وتلألأ من جبال فاران، وفي ترجمة أخرى: واستعلن من جبال فاران، وهي جبال مكة التي سكنها إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-، وعند كل الناس هي جبال الجزيرة العربية التي نزل فيها الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء في جبل النور حاليًا؛ لذلك علموا أن هذه مهاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسكنوا فيها انتظارًا لنبي آخر الزمان، وأنهم سوف يقتلون كل الكفار معه، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم؛ يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، كما قال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال: قالوا: فينا والله وفيهم -يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصة، يعني: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ). قالوا: كنا قد علوناهم دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًّا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظلَّ زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به؛ يقول الله -تعالى-: (فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)" (تفسير ابن كثير).
فكانوا يطلبون الفتح بالكتاب المنزل على الرسول الخاتم -صلى الله عليه وسلم-؛ فلما وجدوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جاءهم لم يكن منهم عادوه وكفروا به وكذَّبوه، مع أن الإشارات في التوراة -عندهم- أنه سيكون نبيًّا من إخوتهم، وليس من بني إسرائيل أنفسهم، وكما يعلمون في التوراة أن الله وعد إبراهيم أنه سيجعل من نسل إسماعيل أمة عظيمة، ولا توجد أمة من نسل إسماعيل إلا ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإلا فقد كانوا في الجاهلية أضل قوم؛ لا يمكن أن يسموا أمة عظيمة إلا بعد أن اجتمعوا وتوحَّدوا على دين الإسلام، فما كان من اليهود مع ذلك إلا أنهم لما: (جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)؛ فاليهود لهم أوصاف تميزوا بها وعرفوا بها من بين كل الأمم، فمن ذلك أنهم كفار، حسدة، مكذبون للرسل، إلا مَن رحم الله منهم ممَّن اتبع الأنبياء؛ قال الله -تعالى-: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (البقرة: 90).
(بَغْيًا): فهم كذلك بغاة.
(فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ): غضب بسبب تكذيب عيسى -صلى الله عليه وسلم- ومحاولة قتله وصلبه، كما قتلوا الأنبياء قبل ذلك، فلم يمكنهم الله -عز وجل- من ذلك، والغضب الجديد بسبب تكذيبهم بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
(وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ): فلا بد أن يهانوا؛ فهذا حكم الله الشرعي والكوني القدري في معظم الأزمنة، والمآل أيضًا إلى ذلك قبل آخر الزمان، إلا هذا الزمن الذي ابتلانا الله أن نوجد فيه، فاليهود منذ آلاف السنين ليس لهم ملك من بعد سليمان مباشرة تقريبًا، وانهارت الدولة التي كانت لبني إسرائيل وحتى العهد الذي نحن فيه، حتى قال موشى ديان لجولدا مائير في حرب 67: "عندك جيش هو أقوى جيش لإسرائيل منذ عهد الملك داود!"؛ فهم لم تتكون لهم دولة أصلًا قبل ذلك، وهذا قدر الله -عز وجل- حيث قال: -سبحانه وتعالى-: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (آل عمران: 112).