كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعندما هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وادع اليهود الذين كانوا من بين سكانها، وكانوا هم الأسبق من الأوس والخزرج في سكنى المدينة؛ لأنهم فروا من سبي بابل على يد بختنصر، فجاءوا إلى يثرب لعلمهم بأنها مهاجر نبي آخر الزمان؛ فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم-، (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)، ويقولون: "قد اقترب زمن نبي سنقتلكم معه قَتل عادٍ وإرم"؛ (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (البقرة: 89).
فلما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وادعهم جميعًا؛ بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة؛ إضافة إلى طوائف من اليهود دخلوا في قبائل الأنصار؛ إذ إن كثيرًا من الأوس والخزرج كانوا يهودون أولادهم اعترافًا منهم بأن أهل الكتاب خير من عَبَدة الأوثان؛ فعاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الجميع، وأمَّنهم على أموالهم ومواليهم، ولكن اليهود -كما هو شأنهم- نقضوا عهدهم، وخانوا حلفاءهم.
وكان أول مَن خان وغدر بنو قينقاع؛ تلاهم في الخيانة والغدر: بنو النضير، ثم يهود بني قريظة بعد ذلك، وكان غدرهم أخطر، ونقضهم للعهد في وقت شديد الحساسية؛ كادوا يتسببون في سقوط المدينة في أيدي المشركين، متحالفين معهم في غزوة الأحزاب، وعرَّضوا المسلمين لخطر الاستئصال.
فأما يهود بني قينقاع فإنهم قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو حاربتنا لعلمتَ أنَّا نحن الناس"، وكان من أمرهم: أن امرأة من العرب قَدِمت بجَلَبٍ لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما أن قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ -وكان يهوديًّا- فقتله، وشَدَّت يهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون ووقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيَّق عليهم حتى نزلوا على حكمه، فقام عبد الله بن أُبَي ابن سلول حين أمكن الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، فقال: "يا محمد، أَحْسِن في مَوَالِيَّ"؛ فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا محمد أَحْسِن في مَوَالِيَّ"، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني"، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُللًا، ثم قال: "ويحك! أرسلني"، قال: "لا والله! لا أرسلك حتى تحسن في مواليَّ"، أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر؛ قال الله -تعالى-: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ . وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 52، 53).
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هم لك"، وكان عبد الله بن أُبَي لا يزال صاحب شأن في قومه، فقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شفاعته في بني قينقاع على أن يُجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم عدا السلاح، وبذلك تخلَّصت المدينة من يهود بني قينقاع.
وأما بنو النضير: فقد أتاهم رسول في دية القتيلين من بني عامر اللذين قَتَلهما عمرو بن أمية الضمري؛ للجوار الذي كان رسول -صلى الله عليه وسلم- عقد لهما، فلما جاءهم -صلى الله عليه وسلم- وجدوها فرصة لكي يطرحوا عليه صخرة ويتخلصوا منه، وانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب؛ فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء، فقام وخرج، ثم قاموا في طلبه، فلقوا رجلًا من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلًا للمدينة، فأقبل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر به، وأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، وكان إجلاؤهم سنة أربع هجرية، وفيهم أنزل الله -عز وجل- سورة الحشر التي سميت: "بني النضير"؛ قال الله -عز وجل-: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ . وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) (الحشر: 2، 3). الآيات. فأخرجهم الله من ديارهم؛ أي: إلى الشام.
أما يهود بني قريظة: فكان لهم دور بارز في تحزيب الأحزاب على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الخندق، وكان حيي بن أخطب -وهو نضري-؛ هو الذي أتى قريشًا، وغطفان، وقبائل العرب؛ يحرِّضهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله رجال قريش: أديننا خير أم دين محمد؟ فقال: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممَّن اتبعه! وهم كاذبون في ذلك، ويعلمون أنهم كاذبون؛ لإنكارهم ما جاء بالتوراة التي بين أيديهم؛ فأنزل الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) (النساء: 51)، ثم جاء حيي بن اخطب إلى كعب بن أسد -زعيم قريظة-؛ فظل يغريه بعد قدوم الأحزاب لنقض العهد مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكان كعب بن أسد يأبى ذلك؛ خوفًا من رحيل الأحزاب، وتركهم يهود بني قريظة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ فينفرد بهم، ولم يقبل نقض العهد؛ إلا بعد أن اشترط على حيي بن أخطب أن يدخل معه حصونهم يجري عليه ما يجري على بني قريظة.
فقبل ذلك حيي بن أخطب، واشتد حصار الأحزاب للمدينة، وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام ليعرف موقف بني قريظة من العهد؛ فسبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأظهروا نقض العهد؛ فرجع الزبير -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فاستبشر خيرًا.
ثم إن الله -عز وجل- رَدَّ الأحزاب لم ينالوا خيرًا (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب: 25)، وأرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها.
فرجع النبي -صلى الله عليه وسلم- لما عَلِم بانصراف الاحزاب، ورجع إلى المدينة ووضع سلاحه، فجاءه جبريل -عليه الصلاة والسلام- وعلى ثناياه النقع -أي: التراب-، فقال: "أَوَقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعتُ الآن إلا مِن طلب القوم؛ إن الله يأمرك يا محمد المسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل بهم".
وبعد حصارهم خمسًا وعشرين ليلة نزلوا على حكم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحكَّموا رجلًا من الأوس، وهو سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، وكانوا مواليه بالجاهلية، فقال: "إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات".
هذا ملخص غدر اليهود مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى تخلصت المدينة من شرورهم والحمد لله.
ونسأل الله أن يخلِّص المسلمين من شرِّ اليهود في فلسطين، وأن يحفظ المسجد الأقصى، وأن يطهره من دنس اليهود.