الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأربعاء 21 أغسطس 2024 - 17 صفر 1446هـ

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية: الأستاذ محمود محمد شاكر) (9)

كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فيُواصل الأستاذُ محمود شاكر حوارَه مع أساتذتِه، الذين دعاهم والدُه الشيخ محمد شاكر على الغداء، لمحاولة إقناعِه بالرُّجُوعِ عن قرار تركِ الجامعة، فيَقُولُ -باسطًا فكرَه في لُغةٍ رائقةٍ مُتدفِّقةٍ مُنسابةٍ، لا عنتَ فيها، ولا تَكلُّفَ، ولا مَشقَّةَ-: "فتَقوَّضَ معنى "الجامعة" وأصبح حُطامًا؛ فكيف تُطالبونني بأن أعيشَ سنواتٍ أخرى بين الحُطامِ والأنقاضِ؟ وأيّ خيرٍ أَرجُوه أو تَرجُونَه منِّي إذا أنا فعلتُ ذلك راضيًا أو غيرَ راضٍ؟

شيءٌ واحدٌ: أن يُعلِنَ الدُّكتور طه أنّ الذي يَقُولُه في "مسألة الشِّعر الجاهليّ" هو قَوْلُ مرجليوث بِنصِّه، وليقل بعد ذلك إنّه يُؤيِّدُه ويُناصِرُه ويَحتَجُّ له، أو لا يقل، فإذا فعل فستجدني غدًا أَوَّلَ طالبٍ يُرابِطُ في فِناءِ الجامعةِ قبل أن تُشرِقَ الشَّمسُ، أمّا مع هذا الصَّمتِ فإنّ نَفْسِي لا تُطِيقُ أن تَسكُنَ الدِّيارَ الخَرِبَة!

وَجَمَ نلِّينو، وأحسستُ بنظراتِ العُيونِ تنفذ كالسِّهامِ في جميع أعضائي، وبغتةً قال الشيخ عبد الوهاب النجار -رحمه الله-: إنّ هذا الفتى كان في رأسِه أربعة وعشرون بُرجًا، فطارت ولَم يبقَ إلا بُرجٌ واحدٌ، عسى أن ينتفعَ به يومًا ما، فيسترد الأبراجَ التي طارت! وسكتَ، وحيَّرَتْني كلماتُه، ولَم أدرِ ما عناه، أهو راضٍ عمّا قلتُ أم غيرُ راضٍ؟

ثم بدأ نلِّينو يتكلَّم مرّةً أخرى هادئًا مُعرِضًا عنِّي، وعرض على والدي حَلًّا آخرَ لإنقاذي، ولكنِّي لَم أستجب لهذا الحَلِّ، وبعد يومَين كنتُ على ظَهْرِ الباخرةِ التي تُقِلُّنِي إلى مدينةِ جُدَّة.

فنزلتُها، وشددتُ الرِّحالَ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ، فقضيتُ عُمرَتي، ثم عُدتُ إلى جُدَّة بعد أيامٍ، فأجد أوَّلَ رسالةٍ تلقَّيتُها مِن أبي، وفي آخرها يقول: زارني في عصر اليوم الذي سافرتَ فيه إلى السويس، الأستاذُ نلِّينو والدُّكتورُ طه حسين. ولَم يزد على ذلك شيئًا، وختم الرِّسالة" (انتهى).

فعندما رأى الأستاذُ محمود شاكر هذه الرُّدُودَ الهزيلةَ مِن أساتذتِه على استفساراتِه، لَم يُعيهِ اتخاذُ القرارِ بتركِ الجامعةِ والسَّفرِ إلى خارجِ مِصرَ، وجاء رَدُّهُ عليهم واضحًا، وكان فِعْلُهُ قاطعًا.

ومع أنّه وَقَعَ بين هؤلاءِ الأساتذةِ الكِبارِ، فكما كان يقول: "وقعتُ بين المِطْرَقَةِ والسَّنْدان"؛ إلا أنّك تَشْعُرُ بأنّ اللهَ -عزّ وجلّ- قد مَنَّ عليه بحكمةٍ بالغةٍ، وبصيرةٍ نافذةٍ، فكان له لِكُلِّ مقامٍ مقالٌ، ولِكُلِّ عقلٍ خطابٌ، ولِكُلِّ سؤالٍ جوابٌ.

وكأنّه يُعطِينا درسًا في أنّ الفارسَ الحقيقيَّ هو مَن يَظَلُّ يَحمِلُ رايتَه، مُنافِحًا دُونَها، بعينٍ يقظةٍ، وحِسٍّ غَيُورٍ، لا يخشى في اللهِ لومةَ لائِم.

ورايتُه هي العربيَّةُ، لُغةُ القرآنِ، ولُغةُ العِلْمِ، ولُغةُ التَّواصُلِ، التي قال عنها اللُّغَوِيُّ الأديبُ الدُّكتور مازن المُبارَك: "اللُّغَةُ صِفَةُ الأُمَّةِ في الفردِ، وآيةُ الانتسابِ إلى القومِ.. فَمَنْ أضاع لُغتَه؛ فَقَدَ نَسَبَهُ، وأضاع تاريخَه".

فقد عاش لها منذ شبابِه الباكرِ حتى الرَّمَقِ الأخيرِ، وأعطاها كُلَّ عُمرِه وجُهدِه.