الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الجمعة 16 أغسطس 2024 - 12 صفر 1446هـ

قطرة من كأس فيلم "الملحد" المسموم! وترياقها

كتبه/ عبد المنعم الشحات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد صُدِم الرأي العام في مصر صدمة كبيرة؛ حينما تم الإعلان أن "فيلم الملحد"  قد تمت الموافقة على عرضه في دور العرض السينمائية بعد ثلاث سنوات من رفض الأزهر والجهات الرقابية له، ويرجع الرفض إلى شخصية كاتب السيناريو إبراهيم عيسى؛ فما قدَّمه إبراهيم عيسى عبر سنوات يجعلك تقلق من أي مُنتج له يقترب من الدِّين؛ حتى لو كان العنوان حسنًا، فعندما تكلَّم عن السُّنة كان زعم أن رسالته: "تمييز ما صحَّت نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مما لم تصح نسبته إليه"، وهو أمر لم تكن الأمة ذاهلة أو عاجزة عنه، بل تصدَّى له جهابذة أوقفوا أعمارهم من أجله؛ فميَّزوا ما نقله لنا العدول الضابطون بعضهم عن بعض  فقبلوه، وما لا؛ فردوه، ولم يفتهم اعتبار مناقضة العقل أو مخالفة الحس، دليلًا على أن ثمة خلل ما قد حدث من جهة الناقل؛ لأن الله -تعالى- يقول: (‌وَلَوْ ‌كَانَ ‌مِنْ ‌عِنْدِ ‌غَيْرِ ‌اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء: 82).

ولم يكن هذا معناه عندهم رد الوحي، ولا تقديم أهوائهم عليه؛ وبالتالي لم يعتبروا إلا بالعقل الصريح كأداة لتفسير النص مع إذعانهم له، وسلَّموا بالغيب وآمنوا بما أخبر به مما لا تبلغه عقولهم.

وقد جاء بعدهم أناس قدَّموا أهواءهم على الكتاب والسنة، وكان مِن دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر عنهم قبل ظهورهم، ثم جاء إبراهيم عيسى ومن قبله أساتذته ومعه رفاقه في مؤسسة تكوين وغيرها ليقدموا أهواء الغرب على الشرع، فكانت جريمتهم مضاعفة في عدم الإذعان للشرع من جهة، وفي النقل والتبعية لأعداء الأمة من ناحية أخرى.

وقد أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- عن أناس هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولكنهم يدعون بما يناقض منهجنا؛ حتى استحقوا أن يصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم دعاة على أبواب جهنم،  ولما تكلم ابراهيم عيسى عن الصحابة كان شغله الشاغل أن يثبت لنا أنهم بَشَر وليسوا معصومين، وهي قضية لم تكن تنتظره ليثبتها؛ فهذا ابن عباس حبر هذه الأمة يغلِّظ القول لمن عارض قول النبي -صلى الله عليه وسلم بقول وزيريه وصاحبيه: أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ قائلًا: "أقول لكم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء".

ولكن إثبات أنهم بشر شيء، وتضخيم أخطائهم -على ندرتها وكونها مغمورة في بحار من الحسنات، مع تزكية الله لهم- شيء آخر؛ فضلًا عن الكذب عليهم أو تصديق الكذب الذي كذبته عليهم بعض الفرق الضالة، وها هنا لا بد وأن نذكر قوله -تعالى-: (‌وَالَّذِينَ ‌جَاءُوا ‌مِنْ ‌بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10)، ولا بد أن نذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصحابي أصحابي"، وقوله: "آية الايمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".

وعندما تكلم إبراهيم عيسى عن الإسراء والمعراج كان هدفه نفي المعراج، بل والتشكيك في رحلة الإسراء رغم ذكرها الصريح في القرآن! وعندما تكلم عن السيرة النبوية كان همه أن يدعي أن السيرة النبوية غير صحيحة، فإذا كان هذا ما يقدمه إبراهيم عيسى عندما تكون عناوينه معسولة فيدس فيها هذا السم؛ فكيف لو كان العنوان مسمومًا ابتداءً؛ كعنوان: "الملحد!"؟!

ولذلك سادت حالة ارتياح عندما نشر إسلام البحيري -قرين إبراهيم عيسى وشريكه في مطبخ السموم- أن الفيلم قد مُنِع، متباكيًا على حرية الفكر، وتلك الشعارات التي هم أول مَن يخالفها حينما يطالبون بمحاصرة ومصادرة كل ما ينتمي إلى تراث الأمة؛ سواء كان تفسيرًا سنيًّا يلتزم بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة والتابعين، أو كان حديثًا صححه الأئمة وقبلته الأمة، أو كان فقهًا مأخوذًا عن الأئمة الأربعة أو كان سيرة نبوية عطرة، ثم أبى إبراهيم عيسى إلا أن يسقط لنا قطرة من كأسه المسموم، فانتقى مشهدًا؛ أظنه اختاره لأنه يراه أخف وطأة، ومع هذا جاء مشهدًا كاشفًا ومبينًا عن خلطته المسمومة، وكان المشهد كالتالي:

(يحيى: ما هو عامل نفسه هو واللي معاه مندوبين ربنا وكلائه في الدنيا.

إيمان: اسمع يا يحيى، أنت ابني كنت مؤمن ولا كافر، وأنت روحي كنت ملحد ولا مرتد، اكذب عليهم، قولهم: أنك تبت وأنبت وإنك مسلم.

يحيى: يعني أكذب؟!

إيمان: اكذب ما كلنا بنكذب؛ اللي بيكذب على نفسه واللي بيكذب على الناس واللي بيكذب على النبي واللي بيكذب على ربنا، اللي بيكذب عشان خايف واللي بيكذب عشان يرتاح، واللي بيكذب عشان الكذب هو اللي بيتصدق.

يحيى: وعايزني أكذب أي كذب فيهم.

إيمان: اكذب عشان تريح أمك وتنجي أبوك من جريمة، أبوك مؤمن لدرجة أنه ممكن يقتلك!

يظهر حافظ خلفهما واقفًا، حافظ: إنتي بتكلميه تقوليله إيه؟ مش عايز حد في البيت ده يكلمه، نقاطعه وننبذه ونهجره لغاية ما يرجع لربه ودينه، أنا بقول أهو، وإياك أشوفك بتكلميه تاني.

إيمان تبكي وترجو ابنها بعينيها.

يحيى يربت على كتفيها ويتجه ناحية حافظ، وينظر له نظرة فيها تودد.

يحيى: أنت حتقتل يحيى يا أبو يحيى.

ينظر له حافظ بحدة ثم بتردد، بكراهية ثم بعطف بقسوة ثم بحب.

حافظ: متلعثمًا يتمتم بالآية القرآنية: "في أولادكم عدوا لكم" صدق الله العظيم.

يرد يحيى بالآية القرآنية: "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون".

حافظ: "صدق الله العظيم، كويس أنك لسه حافظ".

يتودد له يحيى: ابن حافظ.

حافظ: ابن كلب!).

ملاحظة:
الآية التي ذكرها على لسان الأب، صوابها وتمامها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا ‌لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن: 14).
ونأتي لتحليل المشهد:

أولًا اختيار الأسماء:

- الأب: حافظ، وطبعًا كمالتها في المثل العامي: مش فاهم!

- الأم: إيمان، وبالطبع هي كلمة شريفة وفاضلة، ولكن منذ غزانا "ديكارت" عن طريق "طه حسين" ثم تلامذته، والإيمان عند هؤلاء يُذكر مذمومًا في مقابل الشك، ويؤكد هذا ضعف حجتها تمامًا أمام ابنها الملحد؛ فلا تملك هذه الأم إلا أن ترجوه التظاهر بالإيمان، والإيمان معرفة ويقين، وقبول وإذعان كما قال -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‌حَتَّى ‌يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65)، والإيمان لما خالطت بشاشته القلوب جعل السحرة يناظرون فرعون بكلِّ قوة، وجعل الصديق يصدق بخبر المعراج الذي ارتاب فيه من ارتاب، ومنهم إبراهيم عيسى، وجعل ربعي بن عامر -رضي الله عنه- في ثيابه الرثة يقول لقائد الفرس: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

أما الملحد: فاسمه يحيى، وبالطبع فالإلحاد والعالمانية كانتا ردَّ فعلٍ لدين خيَّر الناس بين الدنيا والآخرة، وادعى كهنته أنه لا مجال للفوز بالآخرة إلا بالرهبانية وهجر الدنيا برمتها واعتبار كل نعيمها دنسًا! ثم تشكك الناس في صدق هؤلاء الكهنة فخشوا أن يكون من اختار منهم الآخرة قد خسر الدنيا ولم يربح الآخرة؛ فضلًا عن تصدي الكهنة للتقدم العملي؛ فأصابهم الذعر، ومن ثم انطلقوا كالثور الهائج في اتجاه اختيار الحياة الدنيا، وبالتالي سار هؤلاء في ركب: (‌بَلْ ‌تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى: 16، 17)، واختاروا طريقًا أخبرنا الله عن نهايته فقال -عز وجل-: (وَيَوْمَ ‌يَعَضُّ ‌الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) (الفرقان: 27)، وإن كان هذا اليحيى قد اختار الحياة الدنيا على الآخرة؛ فبئس ما اختار، ولكننا معشر المسلمين ندعو بما علمنا ربنا: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ‌وَقِنَا ‌عَذَابَ النَّارِ) (البقرة: 201).
نترك الأسماء ونذهب إلى الشخصيات ذاتها:

لا بد هنا أن نعلم أن المؤلف يصنع الشخصيات وَفْق الرسالة التي يريد أن يرسلها الكاتب، وأن هذه القصة وغيرها شخصيات ينحتها خيال الكاتب معبرًا بها عما يريد أن يزرعه في عقول وقلوب المشاهدين، ولكن الفتنة أن الممثلين عندما يؤدون تلك القصص ينقدح في الذهن وكأنه واقع؛ مهما كان المشاهد متأكدًا من كونه تمثيلًا، ولننظر: ماذا أراد إبراهيم عيسى أن يرسل لنا من رسائل من خلال شخوصه:

فشخصية الأب: أنه متطرف جاف غليظ، وهي الصورة الذهنية التي يصر صُنَّاع السينما على الترويج لها، ولا جديد هنا إلا ادعاء أن هذا التطرف هو المسئول عن الإلحاد.

وشخصية الأم: أنها مقهورة مضطربة، ممزقة بين قهر الزوج وحب الابن.

والأعجب شخصية الملحد: فهو هادئ جدًّا، عقلاني، يخاف من الكذب؛ ولو لإنقاذ نفسه من القتل، حريص على برِّ أمه؛ قابل غلظة أبيه بهدوء وبرٍّ عجيبين، ولم يكن ينقص هذا السيناريو؛ إلا أن يستشهد بقوله -تعالى-: (‌وَإِنْ ‌جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت: 8)!

نأتي لمناقشة هذه الدعاوى:

أما دعوى تجهم المتدينين وغلظتهم: فتنزلًا سوف نفترض أن هذا النموذج موجود، ومع هذا يصر تلاميذ "وحيد حامد" على تعميمه؛ بينما طالبونا ألا نتوقف عند زجاجة البيرة التي صوروها هم أنفسهم في حفل تدشين مؤسسة تكوين، وطالبونا ألا نقف عند هذه الرقصة التي جمعت بين ذكورهم وإناثهم!

وأخيرًا قالوا: لا تنشغلوا بالشيكات التي بدون رصيد التي حرَّرها إسلام البحيري على جهة النصب على امرأة من اللاتي اغتررن بأنه مفكر تنويري!

ولكن سنسلم لهم بوجود هذه الظاهرة، ولكن تصوير أنها سبب للإلحاد، بل السبب الوحيد -الذي تعرض له الفيلم على الأقل-، يعتبر درجة من البجاحة الفكرية التي لا نظير لها!
وقد تناسى إبراهيم عيسى أن موجة الإلحاد في القرون الأخيرة كانت غربية، وهذا يعرفه القاصي والداني، وأنها كانت رد فعل للطغيان الكنسي، وصكوك الغفران، وغيرها، وهذا أشهر من أن يحتاج إلى تدليل!

ولو كلف إبراهيم عيسى نفسه وفتح مواقع الملحدين العرب، أو حتى لو سأل زملاءه في تكوين؛ لعلم أن دعوة الإلحاد ما زالت قائمة على كتابات فلاسفة الغرب؛ فدعوى أن الإلحاد ردُّ فعل للتشدد الإسلامي، والذي يدعي ابن عيسى أننا لم نعرفه إلا في سبعينيات القرن العشرين! بينما موجة الإلحاد الغربية المستمرة حتى الآن كانت منذ القرن السادس عشر، وتصاعدت جدًّا في القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا، ولكن مؤلف العمل السينمائي يلقي سمومه ثم يجلس يحتسي مشروبه المفضَّل، وهو يشاهد رسالته ترسل في اتجاه واحد بلا تعقيب ولا مناقشة.

ومن هنا تدرك سبب اختيار السينما لتقديم هذا السم؛ حيث لا منطق ولا تاريخ، وإنما الكاميرا والإضاءة، والموسيقى التصويرية.

وبالمناسبة: قرأت قصة فيلم عن جولات المخابرات المصرية مع الموساد، وجاء فيه فخرًا واستحسانًا: أن رجلًا مصريًّا قتل ابنه بيده؛ لما عَلِم أنه جاسوس لإسرائيل، ولا ندري: ماذا يقول إبراهيم عيسى في هذه الأفلام أم أنه يرى أن كاتبها ومخرجها تأثروا بابن تيمية؟!

على أننا بصفة عامة ننهى عن تنفيذ أي عقوبة من غير ذي السلطة؛ لا سيما القتل حتى لا يؤدي ذلك إلى لا ما يحمد عقباه، ولكن أردت أن أحتج على إبراهيم عيسى بأهل مهنته.

نأتي لإيمان: لو أن امرأة مؤمنة ألحد ابنها فلن تأمره بالنفاق ليحفظ حياته، ولن يزيده شكًّا بأن تدعي أن الأصل في الناس الكذب، ولو أنها لجأت إلى هذه النصيحة فسيكون هذا مؤقتًا مع أخذها بأسباب رده إلى الحق؛ إلا لو كانت هي نفسها شاكة كما ألمح إبراهيم عيسى عن أمِّ ملحده!

أما لو أراد أن يعرف كم من أم نفعها إيمانها، فصبرت واحتسبت وربت أبناءها؛ فليَسَلْ عن أم الإمام الشافعي يجدها.

أو ليَسَلْ عن أم الإمام أحمد بن حنبل يجدها.

أو ليسل عن أم محمد الفاتح يجدها.

وإن كان إبراهيم عيسى مخاصمًا وخصمًا، وعدوًّا لكتب السلف -ولا عجب! فالإنسان عدو ما يجهل-؛ فليذهب إلى مستشفيات الأطفال وسيجد طوابير من أمهات مجاهدات محتسبات، أو يذهب إلى وزارة التضامن، أو ليذهب إلى أي مكان آخر غير الأماكن التي لُقِّن فيها أن أمهاته وجداته كن يرتدين المايوهات على شواطئ الإسكندرية (سمعنا كثيرًا عن غسيل المخ حيث تتغير أفكار ومعتقدات الشخص، ولكن يبدو أننا بحاجة أن ندرس: ما إذا كان قد اخترع نوعٌ من غسيل المخ يجعل الإنسان يتوهم أشياء في تاريخه، وتاريخ عائلته يقطع كل مستمع لها بكذبها!).

نأتي للملحد نفسه:

لفتة سريعة:

إبراهيم عيسى مستودع شبهات، وبالتالي فهو ككاتب سيناريو يمكن أن ينحت شخصية تتحدث بلسانه، ولكن شخص ثقيل الظل، ومع هذا فكمزيد من تلميع هذا الملحد صوَّره خفيف الظل فحينما بكته أبوه بأنه ما زال يحفظ بعض آيات القرآن، فقال له: "كويس أنك لسه حافظ!"، فرد قائلًا: "ابن حافظ"؛ لأن اسم ابيه حافظ؛ فرد الاب لأنه متشدد، وما إلى ذلك: "ابن كلب!".

التعليق:
الملاحدة يقولون: الإنسان ابن قرد، والقرد بن جرثومة؛ فليست بعيدة عن "ابن الكلب"، بينما يعتقد مَن يراهم إبراهيم بن عيسى متشددين في قوله -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي ‌أَحْسَنِ ‌تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، وبالطبع يعتقدون أن مِن البشر من يزري بنفسه وبالطبع على رأسهم من يرى جده الأكبر "قردًا"، وهذا مصداق قوله -تعالى-: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين: 5).

نأتي لمناقشة عناصر شخصية الملحد:

صوَّره لنا إبراهيم عيسى هادئًا مطمئنًا، ونحن لو رأينا أمام أعيننا ملاحدة أهل الأرض في سكون وطمأنينة؛ فسوف نصدِّق كتاب الله -تعالى- "القرآن العظيم": (‌وَمَنْ ‌أَعْرَضَ ‌عَنْ ‌ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124)؛ فكيف ونحن نرى الملاحدة -(اللي بجد) وليست الشخصيات التي يصنعها لنا قلم مؤلف- وهم قلقون مضطربون؟! بل نرى مَن يموت منهم يتسول رفاقه مِن الناس الترحم عليه، ونرى معدلات الانتحار تتناسب طرديًّا مع انتشار الإلحاد؛ حتى في البلاد الواسعة الثراء، بل في نجوم العالم من ممثلات ومغنيات شهيرات، ولا يتسع المقام هنا لذكر إحصائيات، ولكنها معلومة مشهورة.

والأكثر عجبًا! أنه صوَّر ملحده وهو يمتلك ذخيرة أخلاقية جعلته يغالب رغباته ويجاهد نفسه، ويخفض الجناح لوالديه!

ولا أدري مِن أين استوحى إبراهيم عيسى هذه الصورة؛ فالأديان الوثنية "وبدرجة كبيرة الأديان التي أصلها سماوي، ولكنها تلوثت بالوثنيات"؛ لم تفلح أن تجعل أحدًا يجاهد رغباته؛ اللهم إلا بالرهبانية التي أشرنا إليها، أو غيرها من صور تعذيب النفس، أو -إن شئت- قل: إعادة برمجة لها بحيث لا يكون هناك مجال لكي تعمل الغرائز الطبيعية، وأما الحضارة الإلحادية: فيكاد يجمع فلاسفتها على أن اللذة هي المحرك الرئيسي للإنسان، وأن كل إنسان عليه أن يسعى لتحصيلها، ولا يكاد يفعل الإنسان خيرًا إلا إذا اقتنع أنه سيؤدي إلى شيء من هذه اللذة.

إن كثيرًا من دعاة الإلحاد صاروا ينادون بأن يكون الإلحاد موجهًا للخاصة فقط، وأن يُدَعى العامة إلى الاعتقاد في وجود خالق ووجود دين؛ لأن حتى الديانات المحرَّفة تهذِّب أصحابها على مقدار ما فيها من حقٍّ من إيمان بالربوبية والرسالات في الجملة، وهذا هو سر تراجع أوروبا عن نشر الإلحاد إلى القبول بدعوة إلى التدين؛ شريطة أن يكون تدينًا شخصيًّا عالمانيًّا.

وفي ذلك يقول فولتير: "إذا لم يكن الله موجودًا، لكان من الضروري ابتكاره!".

ومَن تأمل خطاب كل فلاسفة العالمانية؛ سيجد أنهم ملاحدة في الأصل؛ فمنهجهم مبني على  التكذيب، أو الشك -على الأقل- في وجود الرب أو في الرسالات؛ سواء باعتقاد أن الرسل كَذَبوا لإصلاح البشرية ولم يرسلهم الله أصلًا -كما كان يقول بعض الفلاسفة الذين حاولوا الجمع بين الدين والفلسفة- أو تبني أن رسالة كل رسول تتبدد معالمها فور انقضاء زمنه، وتصبح منتجًا بشريًّا يزيد فيه البشر وينقصون، وبالتالي يبقى هذا  التحريف في زعمهم حقًّا لكل الأجيال! وهو في النهاية إنكار لبقاء دين سماوي؛ حتى لو أقروا أن منها ما كان أصله كذلك.

وهذا الذي يقولونه يصدق على الأديان المحرَّفة، ولكن كان ينبغي إذ أدركوا هذا أن يدخلوا في دين الحق "دين الإسلام"، ولكنهم إباءً و استكبارًا؛ منهم مَن أصر على إلحاده الصريح، ودعا إليه، ومنهم مَن جمع بينه وبين تلك الأديان المحرفة، وما دفعهم لهذا إلا إدراكهم الحاجة إلى الدين كمصدر لبناء الوازع الشخصي.

وإن إحدى أبرز الثغرات في الإلحاد هي الغياب التام للوازع الشخصي، والذي يهدد أمن المجتمعات تهديدًا رئيسيًّا؛ فملحد إبراهيم عيسى لا وجود له إلا في ذهن إبراهيم عيسى، وإذا كان إبراهيم عيسى وهو ليس ملحدًا لا يكاد يذكر مَن يراهم متشددين إلا بالسب والشتم والسخرية؛ فما بال ملحده يواجه متشددًا "بل متشددًا يهم بقتله" بتلك الابتسامة، وهذا الخُلُق؟! اللهم إلا إذا كان إبراهيم عيسى يرى أن الملحدين أكثر منه حكمة، وأحسن منه خُلُقًا وأكثر أدبًا!

هذه وقفة مع تلك القطرة اليسيرة من "كأس فيلم الملحد المسموم"، أو مع مشهد واحد؛ اختار إبراهيم عيسى أن يسرِّبه إلينا، وما خفي كان أعظم!

على أنه إن عاد ونشر المزيد من المشاهد؛ فسنعود إلى مناقشة ما فيها مِن سموم -بإذن الله تعالى-.