الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 06 أغسطس 2024 - 2 صفر 1446هـ

الرجولة (1)

كتبه/ محمد سرحان

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد روى الإمام أحمد وابن حبان، بسند حسن، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مِمَّ تَضْحَكُونَ؟) قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ)؛ هذا في ساقيه -رضي الله عنه-؛ فكيف به هو -رضي الله عنه-؟!

وروى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هَذَا -وَاللهِ- حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا).

فهذا عبد تقي، خفي ذكره في السماء، ومثله ما قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَمْ مِنْ أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وروى أحمد في فضائل الصحابة والحاكم وصححه الذهبي: "أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ يَوْمًا لِمَنْ حَوْلَهُ: تَمَنَّوْا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا فَأَنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: تَمَنَّوْا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ لَؤْلُؤًا أَوْ زَبَرْجَدًا أَوْ جَوَهِرًا، فَأَنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: تَمَنَّوْا، فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ عُمَرُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ".

ولما طلب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- المدد من أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- في فتح مصر؛ أرسل له أربعة آلاف رجل، مع كل ألف رجل بألف، منهم: عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-. ولما طلب المقوقس حاكم مصر وفدًا يكلمه، أرسل عمرًا -رضي الله عنه- وفدًا على رأسهم عبادة -رضي الله عنه-.

وكان عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أسود طوالًا، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة؛ فهابه المقوقس لسواده، فقال: "نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني، فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيدنا وخيرنا والمقدَّم علينا، وإنا نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به.

فقال المقوقس لعبادة: تقدم -يا أسود- وكلِّمني برفق؛ فإني أهاب سوادك، وإن اشتد عليَّ كلامك ازددت لك هيبة، فتقدم إليه عبادة، فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود، كلهم أشد سوادًا مني وأفظع منظرًا، ولو رأيتهم لكنت أهيب منك لي، وأنا قد وليت، وأدبر شبابي، وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي" (حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة).

ولما دخل رِبْعي بن عامر -رضي الله عنه- على رستم قائد الفرس، وقد زيَّنوا مجلسَهُ بالنمارق المذهَّبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وجلس على سرير من ذهب؛ دخل رِبْعي بثياب صفيقة، وسيف وترس، وفرس قصيرة -ودخل بعزة الإسلام وشموخ الإيمان-، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه؛ ما تأثر بزخرف الدنيا، وما لفت انتباهه ما رآه من زينتها، وما مال قلبه لشيء منها، وما انكسر أمام زينة عدوه وسلطانه؛ فقالوا له: "ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا؛ لنخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنةُ لمن مات على قتال من أبى، والظفرُ لمن بقي" (انظر: البداية والنهاية).

هذه هي الرجولة وهؤلاء هم الرجال.

ونكمل حديثنا عن الرجولة في المقال القادم -بإذن الله-.