الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الإثنين 15 يوليه 2024 - 9 محرم 1446هـ

المؤمنون بين الاستضعاف والتمكين (3)

(من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستكمل قصة موسى -عليه السلام -وبني إسرائيل، قال موسى -عليه السلام-: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ . فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).

موسى -عليه السلام- يقول للإسرائيلي الذي يُضرب مرة ثانية بعد ما نجا من المعركة الأولى: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)، قال القرطبي -رحمه الله-: "أي: لأنك تشاد مَن لا تطيقه"، ليس لأن الفرعوني على الحق وأن الفراعنة عادلون وبني إسرائيل على الباطل، لكن الغواية هنا لمآلات الأمور، ومع هذا كادت العاطفة أن تغلب موسى -عليه السلام- مرة ثانية: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا)، هنا ظهر ما في باطن هذا الإسرائيلي الغوي المبين إذ ظن أن موسى -عليه السلام- يريد قتله؛ فاتهمه بتهم فظيعة، أنطقه الله ليرد موسى -عليه السلام- عن العاطفة وارتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبه بالأمس "وأحيانًا يكون البطش بمجرم كافر خطأ".

(قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ)، ولم يكن هناك شاهد على القتل إلا هذا الرجل وموسى -عليه السلام-، فاعترف بسرعة وانهار واتهم (إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)، وسبحان الله! هل اطلع هو على إرادة موسى -عليه السلام- حتى يجزم بأنه ليست له إرادة إلا في الجبروت؟! فأي ظلم هذا؟! كيف يتدخل ويحكم على نيات الناس؟! وهل هو اطلع على القلوب؟! ثم ألم يكن ما فعله موسى -عليه السلام- لإنقاذه؟! فهو يشاد كل يوم مَن لا يقدر عليه ثم يتهم موسى -عليه السلام- بأنه جبار!

فلما سمع موسى -عليه السلام- ذلك تركهما وانصرف، ثم عقد الفراعنة مؤتمرًا لقتله: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ . فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القص:20-22)، فمكث موسى -عليه السلام- في مدين عشر سنوات، عشر سنوات كانت إعدادًا جديدًا لموسى -عليه السلام-، كانت حكمة زائدة، وعلمًا زائدًا، وسماعًا لكلام الله.

وقد يقول قائل: هذا في شريعة موسى -عليه السلام-، أما شريعتنا ففيها: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) (التوبة:36)، وفيها: (انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟! قَالَ: (تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه)، شريعتنا فيها إيجابية، فيها أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، فيها أن تقول الحق وتجهر به ولا تخاف في الله لومة لائم.

والجواب: وهل هذه القواعد الكلية من نصرة المظلوم ونحوه تختلف فيها الشرائع؟!

أما القتال للمشركين كافة وأن نبدؤهم به، فهذه مرحلة من مراحل الجهاد شرع الله -عز وجل- عددًا من المراحل قبلها، وعند أئمة العلم ليست منسوخة كما بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من أن من كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، نعم هناك مرحلة تستعمل فيها: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)، و(صَبْرًا آلَ يَاسِر).

وفي واقع الحال قد طبق هذا مرات... عندما سقطت الأندلس، وعندما سقطت بغداد، وعندما سقطت مدن كثيرة جدًّا تحت يد التتار، ولما سقطت القدس في يد الصليبيين وبقيت 92 عامًا تحت سلطانهم لم يكن المسجد الأقصى يُصلى فيه، فحالنا اليوم أهون من يوم سقوط القدس، سقطت القدس فقتل نحو 90 ألفًا يوم الدخول، وجعل على قبة الصخرة صليبٌ، وجعلوا المسجد مزبلة وإسطبلًا للحيوانات! وإنا لله وإنا إليه راجعون.

فماذا صنع المسلمون؟!

أعدوا عُدة ظهرت نتيجتها بعد 92 عامًا؛ أعدوا جيلًا جديدًا بدل الجيل المنهزم الذي انهزم بالمعاصي والذنوب، والبدع والضلالات قبل أن ينهزم عسكريًّا؛ لذا لا بد حتى يتحقق النصر من إيجاد هذا الجيل الذي فيه العقيدة الصحيحة وفيه العبادة، وفيه الخلق الإسلامي، وفيه روح الطائفة المتعاونة فيما بينها على البر والتقوى، وفيه الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)؛ إذ ليس أن كل مَن يعنَّ له شيء يفعله، وليذهب الجميع إلى ما يشاءون، فكيف يكون لنا ثقل إذًا؟! وكيف نصل إلى وحدة الكلمة إن لم يتنازل القليل منا للكثير عن رأيه الذي هو في اجتهاد في النصوص والتي تطبق على واقع؟!

لذلك نقول: إن شريعة موسى -عليه السلام- فيها نظرة المظلوم، وفيها قول كلمة الحق، وألا يُخاف في الله لومة لائم بدليل أنه قد واجه فرعون بما واجهه؟ وهذه القضية مفروغ منها، لكنه التطبيق على الواقع... فنصر المظلوم التي يترتب عليها ظلم أشد وفساد أشد هي من عمل الشيطان المضل المبين، ومن الغواية، والبعض يجعلها من سبيل المجرمين؛ لأن موسى -عليه السلام- قال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)، فالبعض يفسرها بلن أكون ظهيرًا لمثل هذا الرجل الإسرائيلي، والبعض يفسرها رغم أني أعترف على نفسي بالخطأ فلن أكون ظهيرًا للفراعنة، وهذه قضية لا بد أن تكون واضحة؛ أننا لا يمكن أن نعاون مَن يعادي الإسلام، لكن لا بد أن نرعى المصلحة العامة للمسلمين.

ولذلك أتت الشريعة الإسلامية بأن يحسب المسلمون قوتهم وقوة عدوهم، وأن ينصرفوا من معركة يعلمون أنهم مقتولون فيها من غير إحداث نكاية في العدو الكافر المشرك -وكانت لا فائدة منها-؛ ليعدوا عدة جديدة (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ . الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:65، 66).

وقد نقل العلماء الإجماع على أن المسلمين إذا كانوا في قوتهم أقل من نصف عدوهم وعلموا أنهم مقتولون من غير إحداث نكاية، فإنهم يجب عليهم الانصراف ويحرم عليهم القتال؛ لأنهم يجب عليهم أن يحفظوا "رأس المال" لعدة جديدة، ويتحيزوا إلى فئة -ولو في مستقبل قريب-، و(أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن عادوا مع خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في غزوة مؤتة حين أقدم الشهداء الثلاثة الأبطال: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- على معركة ظنوا إمكان نجاحها، ثم تبيَّن لخالد بعد دراسة الواقع أن العدد والقوة لا تحتمل ذلك بعد أن قتل القادة الثلاثة شهداء عند الله.

ومع ذلك درس خالد بن الوليد -رضي الله عنه- الواقع دراسة صحيحة، وقرر الانسحاب التدريجي؛ لأن المعركة غير متكافئة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ عَلَيْهِ، وَمَا يَسُرُّنِي، أَوْ قَالَ: مَا يَسُرُّهُمْ، أَنَّهُمْ عِنْدَنَا) (رواه البخاري).

تأمل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَفُتِحَ عَلَيْهِ) فتح من جنس فتح الحديبية! أهو فتح يا رسول الله؟! نعم، فتح المحافظة على رأس المال، فتح الإعداد لمرحلة قادمة، خمس سنوات فقط ثم كان خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يقدم على فتح بلاد الشام كلها "معقل الروم عاصمة قيصر" ويأخذها المسلمون، والنبي -صلى الله عليه وسلم -لما تألم المسلمون نفسيًّا وقالوا: "نَحْنُ الْفَرَّارُونَ"، وكان ضغطًا نفسيًّا هائلًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْوهكذا فلتكونوا إخوة الإسلام.

ونحن نتألم، ولكن في الألم رحمة، ويقع ما نكره، ولكن يجعل الله بعده ما نحب، ويحصل الضرر للأمة، ولكن يجعل الله فيما يقع خيرًا كثيرًا بإذنه -سبحانه-.