دفاعه عن "بشار بن برد" (ت: 167هـ أو 168هـ)
كتبه/ شحات رجب البقوشي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعلى مدار عدَّة حلقات من حلقاته المنشورة على منصَّات "تكوين"، وقف "إبراهيم عيسى" موقف المدافع عن قوم عُرِفوا بالزندقة وقُتِلوا بسببها، ومع هذا يصرُّ على الدفاع عنهم!
أولًا: الملامح العامة للحلقات:
1- يظهر إبراهيم عيسى في حلقات "تكوين" بزيٍّ غير ما تعوَّدَ متابعوه رؤيته عليه، وهذا محاولة منه للظهور في زيِّ (ابن البلد) الناصح، فيكون أقرب إلى قبول الجماهير لكلامه، ورحم الله أمير الشعراء لمَّا نظم قصيدة مطلعها: "برز الثعلب يومًا في ثياب الناصحينا!".
2- حشد صورًا لبعض المراجع عند ذكرها؛ ليعطي السامع نوعًا من الموثوقية في اطلاعه.
3- وعندما يذكر أن هناك مَن دافع عن الزنادقة، يقول: "وذكرت لنا المصادر"، دون أن يذكر اسمها ولا صورها.
4- تأكيده على مسألة "مقابلة الفكر بالفكر"، واستخدام إبراهيم عيسى لهذه العبارة فضفاض جدًّا؛ فلا حدود عنده بين الفكر والكفر، ويعدُّ المخالفةَ العنيدة لصريح القرآن فكرًا لا كفرًا!
5- تهميشه للقضايا العقدية وإخراجها كلها من دائرة الثوابت إلى فضاء المختلف عليه.
6- اعتماده على التناول الاستشراقي لتراجم الزنادقة، ومنهم الألماني (جوزف فان آس) (ت: 2021م) في كتابه: "علم الكلام والمجتمع في القرنين: الثاني والثالث للهجرة".
8- يحتفي جدًّا بثناء كتب التراجم على الزنديق من ناحية الأدب واللغة، ويجعل نفس الكتب في دائرة الاتهام عندما تذكر ملامح زندقة نفس الشخص.
9- يقحم إبراهيم عيسى السلفية في حلقاته بشكل متكلَّف فيه، مما يدلُّ بوضوحٍ على هدفه الخبيث من هذه الحلقات.
ثانيًا: بشار بن برد وحكم العلماء عليه:
قد ذكر إبراهيم عيسى مدح المؤرخين لمكانة بشار بن برد الأدبية واللغوية، ليخرج منها بنتيجة أنه كان صاحب فكر، ولم ينتبه إلى أن هذا المدح قد جاء معه في نفس السياق ذم لنفس الشخص، وهذا يدل على إنصاف وموضوعية المؤرخين، فإن كنت سلَّمت لهم في المدح وقبلته، فلماذا تنفي الذمَّ الذي ذكروه ودلَّلوا عليه؟!
ومما ذكره المؤرخون من ذمِّ بشار:
- بذاءة خُلُقه مع والديه وجيرانه منذ صغره:
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "عن أبي عبيدة، قال: كان بشار يقول الشعر وهو صغير، وكان لا يزال قوم يشكونه إلى أبيه فيضربه حتى رق عليه من كثرة ما يضربه، وكانت أمه تخاصمه، فكان أبوه يقول لها: قولي له يكف لسانه عن الناس، فلما طال ذلك عليه، قال له ذات ليلة: يا أبتِ لِمَ تضربني كلما شكوني إليك؟ قال: فما أعمل؟ قال: احتج عليهم بقول الله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (النور: 61)، فجاءوه يومًا يشكون بشارًا، فقال لهم هذا القول، فقالوا: فِقهُ بُرْدٍ أضرُّ علينا من شِعر بشار" (تاريخ بغداد).
وكان في هجائه قذفٌ لمخالفيه بأبشع العبارات (ينظر: معجم الأدباء).
لذلك نقل الاصفهاني في "الأغاني" أن جماعة من علماء العصر كانوا يسوؤهم كلام بشار، وكلمه منهم عبد الله بن دينار، والحسن البصري، ولكن لم يجدوا استجابة منه.
- ثناؤه على المعتزلة:
جاء في "معجم الأدباء": "وكان بشار بن برد قبل أن يدين بالرجعة ويكفّر جميع الأمة، كثير المديح لواصل بن عطاء".
- استهانته بالعبادات:
لما طلبه الخليفة لعقابه على هجائه، طلبوه فوجدوه في البصرة سكرانًا يؤذِّن في غير وقت الأذان، وذكر الأصفهاني في "الأغاني" مواقف تدل على تركه للصلاة، وادعائه أنه حجَّ بعد عودته من سفر كان إلى القادسية، وغير هذا من المواقف.
- تكفير بشار بن برد للصحابة الكرام -رضي الله عنهم-:
ذكر أبو منصور الإسفراييني في "الفرق بين الفرق" فرقة الكاملية، فقال: "هؤلاء أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبي كامل، وكان يزعم أن الصحابة كفروا بتركهم بيعة علي، وكفر علي بتركه قتالهم، وكان يلزمه قتالهم كما لزمه قتال أصحاب صفِّين، وكان بشار بن برد الشاعر الأعمى على هذا المذهب".
- قوله بالرجعة ومدحه إبليس:
قال أبو المظفر الإسفراييني في "التبصير في الدين": "وبشار هذا زاد على الكاملية بنوعين من البدعة: أحدهما: أنه كان يقول بالرجعة قبل القيامة كما كان يقولها الرَّجعيَّة من الروافض، والثاني: أنه كان يقول بتصويب إبليس في تفضيل النار على الأرض؛ ولذلك قال:
الأرض مظلمة والنار مشرقـة والنار معبودة مذ كـانـت النار
ونقل المعري في "رسالة الغفران" أن بشار أنشد:
إبليس أفضل من أبيكم آدمٍ فـتبيـَّنـوا يا معشر الأشرار
الـنـار عنصره وآدم طـينـةٌ والطِّين لا يسمو سموَّ النّار
- بشار بن برد يكفِّر الأُمَّة:
قال الأصمعي: "وكان بشار كثير المدح لواصل بن عطاء قبل أن يدين بشار بالرجعة، ويكفر جميع الأمة" (البيان والتبيين).
- قتل بشار بن برد:
أثار إبراهيم عيسى شكوكًا حول قتل بشار بن برد: هل قُتِل لزندقته أم قتل لأمور سياسية، ثم قيل بزندقته لتجميل صورة من قتله؟!
والحقيقة: أن إبراهيم عيسى لم يأتِ بجديدٍ، فهذه الاحتمالات أوردها المؤرخون منذ مئات السنين، وهذا من إنصافهم، ثم رجحوا قتله بسبب الزندقة.
قال ابن المعتز -وهو من معاصريه- في "طبقات الشعراء": "فوشى به بعض مَن يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي. وقيل: بل قيل للمهدي: إنه يهجوك، فقتله. والذي صَحَّ من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة فقتله".
وهذا النصُّ الأخير يدل على أن المهدي لم يغتر بمدحه عندما ثبتت عليه الزندقة، فقتله حفظًا للدِّين، ولم يركن إلى الودِّ الذي كان بينهما.
والحقيقة بشار بن برد ادَّعى الإسلام، وغلبت عليه العقائد الوثنية التي كانت سائدة في بلاد فارس وما ورائها قبل الإسلام، فظهرت زندقته، أما دفاع إبراهيم عيسى عنه فهو مجرد اجترار لكلام المستشرقين، فهو يتكلم عن بشار بن برد بنفسِ النَّفس الذي تكلَّم به المستشرق الألماني (جوزف فان آس) في كتابه: "علم الكلام والمجتمع" (2/20-32)، حيث ظل في ثلاث عشرة صفحة من كتابه يحاول دفع تهمة الزندقة عن بشار؛ رغم إقراره بما تقدَّم من تفضيله إبليس والنار، وموقفه من الصحابة -رضي الله عنهم-.