من تراث الدعوة
كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فحسبنا الله ونعم الوكيل، نسطـِّر الكلمات والقلوب يعتصرها الألم على حال أمتنا الغالية في أماكن شتى، وأحداث مزعجة مقلقة لقلب كل مؤمن، آخرها ما يجري في فلسطين؛ دماء تُسفك، ومساكن تُهدم، ومدن تُقتحم، وحرمات تُنتهك، وما لنا بنصرتهم يد إلا التضرع لمالك المُلك، وجبار السماوات والأرض أن يكفَّ بأس الذين كفروا، والله أشد بأسًا وأشد تنكيلًا.
ولكن وجدتُ خواطر، أرجو الله أن تكون إيمانية؛ عساها أن تكون نافعة لنا ولإخواننا المجاهدين والمستضعفين في كلِّ مكان:
1- جندي واحد مِن اليهود يؤسر "ليس له عند الله حرمة"؛ قامت الدنيا ولم تقعد بعد لإطلاق سراحه والانتصار له، ومئات الألوف مِن أسرى المسلمين رجالًا ونساءً وأطفالًا في المشارق والمغارب لا يتكلم عنهم أحد، ولا يشعر بهم أحد؛ إلا مَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد "يدعو لهم في ظلمة الليل، وفي حال السجود"، والواحد منهم حرمته عند الله كحرمة البلد الحرام في الشهر الحرام في أعظم الأيام حرمة عند الله يوم النحر ويوم عرفة، ويعانون مِن أنواع الألم والظلم والطغيان والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ويحتملون ما لا تحتمله جبال!
فمَن لهم؟!
لهم الله -عز وجل- ينتصر لهم، ويذل مَن ظلمهم ولو في عقر بيته، ويهين مَن أراد إهانتهم ولو بعد حين، أليس في شارون عبرة لأولي الألباب، (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (البروج:12-13)؟!
2- عجيب صبر المؤمنين واحتمالهم، وثباتهم على إيمانهم رغم الأهوال ورغم الدمار والهلاك الذي يحيط بهم، لكنه معجزة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومِن دلائل نبوته؛ لأنه دليل على ما يصنعه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، وأن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تزكو به النفس الإنسانية وينشرح به الصدر والقلب حتى يصل إلى احتمال ما لا يحتمله عامة البشر مع الرضا عن الله، وشهود فضله فيما أعطى، وشهود حكمته فيما أخذ، وشهود عدله فيما أصاب، وشهود عزته في انتقامه مِن الظالم الباغي بعد حين، وشهود حلمه في الإمهال، وشهود رحمته في اصطفاء الشهداء، فله الحمد على كل حال.
3- حقوق الإنسان عند الغرب صنم عجوة يأكلون منه في اليوم الواحد العشرات، بل المئات؛ لجوع قلوبهم وعطشها الذي لا يُسد؛ فلماذا كانت المطالبات بإطلاق سراح الجندي اليهودي وهو ليس مدنيًّا "بل حربيًّا بكل معنى الكلمة"، مع بكم الألسنة وعَمى العيون عن الألوف مِن المسلمين المدنيين، ومنهم النساء والأطفال المسجونين في سجون اليهود والأمريكان أم إنهم ليسوا عندهم مِن بني الإنسان؟! حسبنا الله ونعم الوكيل.
4- مرَّت بالأمة محن أشد مما نحن فيه ولم تمت، فيوم دخل الصليبيون بيت المقدس قتلوا كل مَن بها مِن المسلمين، وجعلوا المسجد الأقصى مزبلة وإصطبلًا للحيوانات، ورفعوا صليبًا على قبة الصخرة! واليهود والأمريكان يخافون اليوم أن يفعلوا ذلك لئلا تنتفض الأمة أكثر مِن انتفاضتها وصحوتها، ومع كل ما جرى تغيَّرت الموازين في نحو ثمانين سنة، وعاد المسلمون إلى بيت المقدس -بفضل الله-، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.
فموازين القوى ليست مِن عند الناس وإنما هي بيد الله، وعلى قدر اكتمال الإيمان في النفوس تكون سرعة تغير الموازين (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
وإنما قدَّر الله البلايا على أمة الإسلام؛ لأنه يريد منها عبودية في المحنة، ويريد منهم ثباتًا في الغربة، ويحب أن يَرى منهم البذل والتضحية وعدم مداهنة الأعداء رغم القلة والاستضعاف؛ فلا بد أن نستحضر أنها أيام تمر، وأدوار تُؤدَّى؛ فانظر أين جعلك الله لتعلم منزلتك عنده "إذا أردت أن تعرف مقامك؛ فانظر أين أقامك؟".
ولا نشك أن مَن يجتبيهم الله للثبات على الدين والدفاع عنه، والنصرة له باليد واللسان والنفس والمال في أوقات الغربة هم مِن المصطفين الأخيار، وأما متى تتغير فترة الإحراق وتأتي فترة الإشراق فليس لنا أن نحدِّد ذلك، ولعلنا في فترة الإحراق أعظم إيمانًا وإسلامًا مِن فترة الإشراق، ولعلنا في عافية وعصمة مِن الله أن لا تكون الدنيا بأيدينا مع الأمراض والعلل والشهوات والمنافسات، فتهلكنا كما أهلكت مَن كان قبلنا؛ فهل تساوي الدنيا الحقيرة أن نتنازل عن شيء مِن عقيدتنا في سبيلها تحت ضغط الواقع، نسأل الله العافية.
5- موازين المصالح والمفاسد في مقاومة أعداء الإسلام موكولة إلى علماء أهل السُّنة في محل المقاومة؛ فعليهم أن يتقوا الله في اجتهادهم حتى لا يتخاذلوا عن أمرٍ يمكن فيه مصلحة المسلمين وكيد الكافرين، وفي نفس الوقت حتى لا يتقدموا على المسلمين على ما فيه إصلاحهم أو ضررهم، وما لا طاقة لهم به، ثم يتراجعون عند ذلك؛ فاتقوا الله يا علماء المسلمين، ويا قادة المسلمين في أرض الجهاد، واستشعروا مدى الأمانة في أعناقكم، نسأل الله لنا ولكم الهداية والسداد.
6- وأخيرًا: هلَّا أكثرنا مِن الصلاة والسجود في هذه الأيام العصيبة نصرة للمستضعفين والمجاهدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ . وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:153-157).