الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الخميس 08 مايو 2025 - 10 ذو القعدة 1446هـ

الوصايا النبوية (20) (كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) (موعظة الأسبوع)

كتبه/ سعيد محمود

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري). ورواه الترمذي وزاد فيه: (وَعِدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ)، وزاد في كلام ابن عمر: "فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا".

مجمل الوصية:

أن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل راجعًا إلى وطنه ومسكنه الحقيقي.

قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا" (جامع العلوم والحكم).

الجنة هي وطن المؤمن الحقيقي:

- لما خلق الله -تعالى- آدم -عليه السلام- أسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أهبطهما منها ووعدهما والصالح من ذريتهما بالرجوع إليها: قال -تعالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38).

- المؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول، وحب الوطن شعور غريزي في الإنسان: وكما قيل: 

كم منزل للمرء يألفه الفتى          وحـنيـنـه أبـدًا لأول مـنـزل

وقيل:

فحي على جنات عدن فـإنها                   منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى                   نـعـود إلـى أوطـانـنـا ونسلَم

الدنيا ليست وطنًا للمؤمن:

- اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم: قال -تعالى- حاكيًا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر: 39). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ‌ثُمَّ ‌رَاحَ ‌وَتَرَكَهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه: "اعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا"، وروي عنه أنه قال: "مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا، تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا" (جامع العلوم).

- وبذلك تواترت تعبيرات السلف بما فهموه عن معلِّمهم -صلى الله عليه وسلم-: "دخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتًا نوجِّه إليه"، "ودخلوا على بعض الصالحين، فقلَّبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل، فقال: أمرتحل؟ لا أرتحل، ولكن أطرد طردًا". وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل". وقال بعض الحكماء: "عجبت ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه؛ يشتغل بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة!" (جامع العلوم والحكم).

ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الدنيا؟

- تمهيد: إذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين:

الأول: (كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غَريبٌ):

- والغريب هو مَن قدِم بلدًا لا مسكن له فيه يؤويه، ولا ساكن يسلِّيه، خالٍ عن الأهل والعيال والعلائق، غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الغربة ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه. قال الفضيل بن عياض: "المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همه مرمة جهازه" -الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه-.

- فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم: قال الحسن: "المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن، وللناس شأن"؛ ولذا كان عطاء السليمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي".

- ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه: قال -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: 197).

الثاني: (أو عابِرَ سبيل)(1):

- وهو أن يُنزِل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت: ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا، فهو في حالة تخفُّف دائمة من الأثقال حتى لا تعيقه أو تؤخِّره عن بلوغ مقصده. عن عبد بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتَّخذنا لك وطاء فقال: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ‌ثُمَّ ‌رَاحَ ‌وَتَرَكَهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

خاتمة: (وَعِدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ):

- كن قصير الأمل "فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا": قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "قال بعض السلف: ما نمت نومًا قط، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه. وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحوه. وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النوم. وقال بكر المزني: "إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة. وكان أويس إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي، فيبشَّر بالجنة أو النار؟" (جامع العلوم والحكم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قيل: إنَّ (أو) للإضراب بمعنى (بل)، والمعنى: بل كن كأنك عابر سبيل، وهو ارتفاع به إلى منزلة أعلى في الزهد من منزلة الغريب. فعابر السبيل أشدُّ زهدًا في مغريات طريقه من الغريب؛ لأن الغريب قد يسكن في بلاد الغربة ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل.