كتبه/ محمود عبد الحفيظ البرتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الإقرار بالخطأ والاعتراف بالحق هو أول طريق التوبة وإصلاح النفس؛ فالاعتراف بالذنب يولِّد الندم ويقود إلى التوبة، ويحث على الاستغفار، (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) (يوسف:97).
ولأن بداية استدراك ما فات، وإصلاح التقصير والأخطاء، هو الإقرار على النفس وعدم الكبر والاستعلاء، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتضرع إلى الله -عز وجل- ويتوسل إلى ربه صباح مساء بقوله: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) (رواه البخاري)، وكما في دعائه: (أعُوذُ بكَ من شَرِّ نَفْسي، ومن شَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكهِ، وَأنْ أقْتَرِفَ على نَفْسي سُوءًا، أوْ أجُرَّهُ إلى مُسْلمٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، فالمعترِف المقر بذنوبه وأخطائه أقرب للتوبة ممن يزكي نفسه.
وكان من أسباب شقاء إبليس أن أَبَى واستكبر، وتمادى في غروره وإعراضه عن التوبة والإنابة، فكان من الصاغرين المُبعَدين، (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف: 13)، فالجنة لا يصلح أن يسكنها وأن يكون من أهلها إلا نفس مسلمة مستسلمة لخالقها -تبارك وتعالى-.
وكان من أسباب سعادة الأبوين -آدم وحواء عليهما السلام- الاعتراف بالخطأ: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23).
وقد قال الله -عز وجل- مبينًا فضيلة الاعتراف بالذنوب، وأن ذلك يُرجى معه أن يوفق العبد إلى التوبة والمغفرة: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:102)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ) (رواه مسلم).
ذكر الله أمنة من الإصرار على الذنوب والاستكبار:
إن ذكر الله -عز وجل- الصادق بالقلب واللسان، والعمل بطاعته، يؤدي إلى توبة الإنسان الدائمة، ويجعل المسلم حريصًا على محاسبة نفسه ومراجعتها، وهو أمنة للعبد من الإصرار على المعاصي أو الاستكبار على أمر الله؛ قال الله -تعالى- في صفات المتقين: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 133-135).
ومما يعين المرء على الاعتراف بالخطأ والتقصير:
- كثرة ذكر الله وإقام الصلاة: فإن هذا -كما سبق- من أعظم المعينات على الاعتراف بالذنب، والتوبة والاستغفار، وأداء الحقوق إلى أصحابها.
- الحرص على تزكية النفس، وتطهيرها مِن الآفات والأمراض؛ فإن فلاح العبد لا يحصل إلا بذلك: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9، 10)، وهذه التزكية إنما تحصل بقدر ارتباط المسلم بالوحي المنزل مِن الكتاب والسُّنة.
- التواضع والابتعاد عن الكبر والاستعلاء: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم). ولم يأتِ مثل هذا الوعيد في الكبائر الظاهرة، والعلماء أول ما يذكرون في الحُجُب التي تحجب الروح والقلب عن الله -عز وجل-، يذكرون: "الشرك - البدع - الكبائر الباطنة - الكبائر الظاهرة".
- الإكثار مِن التضرع إلى الله والدعاء: (وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ) (رواه مسلم)، وكذا: (أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي)؛ فإن مَن أدمن هذا الاعتراف فيما بينه وبين الله بالخطأ والتقصير، ورؤية إحسان الله وإنعامه عليه؛ سهل عليه جدًّا أن يعترف بحقوق المخلوقين، وأن يتواضع لهم، ولا يشهد لنفسه حظـًّا أو فضلًا عليهم، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمي هذا الدعاء العظيم بسيد الاستغفار.
نسأل الله العفو الكريم، التواب الرحيم أن يرزقنا التوبة والإنابة، والثبات والاستقامة.