كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فاللهم اغفر لعبدك محمد عبد الفتاح، واجزه خير الجزاء على ما قدَّم لدينه ودعوته عبر هذه السنين، وأخلِف على الأمة خيرًا منه. آمين.
وبعد، فكثيرًا ما كنت أسمع من فضيلة الشيخ أبي إدريس -رحمه الله-: "نحن في زمان انتهت فيه الفردية والشيخ الواحد الذي برحيله تتوقف الدعوة أو تموت، وانتقلنا إلى المؤسسية".
هكذا كان -رحمه الله- يؤصل ويؤسس للجماعية والمؤسسية بقوله وفعله، وهو إرث تتناقله الأجيال في هذه الدعوة المباركة، وله عظيم الأثر في قوتها وتماسك أفرادها وبقائها وأثرها في المجتمع -بفضل الله تعالى-؛ خلافًا للدعوات الفردية التي يرى بعض قادتها بدعية العمل الجماعي ثم هم في واقع الأمر يمارسونه بصورة أو بأخرى كي تبقى دعوتهم، لكنها ما تلبث أن تضعف ثم تتلاشى برحيلهم أو انتقالهم.
ومن الإشارات البديعة في القرآن لهذا المعنى قوله -تعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87).
وقد ورد فيها تفسيران عن السلف:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: أمروا أن يتخذوها مساجد (وذلك بسبب الخوف). وجاء عن مجاهد: مساجد مستقبلة القبلة. وسعيد بن جبير: أي: يقابل بعضها بعضًا. وهذا المعنى الأخير؛ ليسهل إبلاغهم الأوامر ويسهل خروجهم من مصر، وعليه نقول: لا بد من الترابط الوثيق بين القيادة والجنود والأفراد كي يتمكنوا من الحركة الواحدة في وقت واحد.
ثم نلحظ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ): القيادة البديلة أو الوسيطة، والذي سأل الله أن يكون عضدًا له؛ بالإضافة للعرفاء والنقباء، (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) (المائدة: 12) لإبلاغ الأوامر، وهناك سمع وطاعة تربت عليه الأمة (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا).
وتأمل في (تَبَوَّآ) لتفعل القيادة ما فيه مصلحة للطائفة لسهولة الحركة، تهيئة ضرورية وليست سهلة، وأي أمة من الأمم أو طائفة أو جماعة لا يوجد ارتباط وثيق بين أفرادها لا يمكن أن تكون مؤثرة.
ويدلك على أهمية هذه التربية وهذا الإعداد: أن تعلم أنهم كلهم حين أُمِروا خرجوا جميعًا، وقد قيل في عددهم: كانوا ستمائة ألف، وقيل غير ذلك؛ فلا يمكن أن يتم عمل بدون ترابط ونظام، وفي مقابلة البيوت بعضها لبعض سهولة تلقي أوامر القيادة ووصولها للأفراد بخلاف ما لو كانت البيوت متناثرة متفرقة.
وفي المقابل: بُعد القيادة عن القاعدة، وضعف التواصل من أسباب ضعف الدعوات، بل والقضاء عليها وزوالها، كذلك ضعف التواصل فيما بين الأفراد وانتشار الأمراض القلبية والسلوكية بينهم له عظيم الأثر في ضعف الدعوات وضعف أثرها في المجتمعات، وفي هذا كله تأكيد على ضرورة وأهمية الجماعية للقيام بهذا الدين ووجود الكيان القوي قيادة وأفرادًا.
ومع الوضع الإداري القوي لا بد كذلك من الاعتناء بالتزكية (أعمال القلوب والأخلاق تحلية وتخلية)، كما في (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) والصلاة في البيوت خصوصًا، كما ورد قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ) (متفق عليه)، وقوله: (اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) (متفق عليه).
فتعمير البيوت بالصلاة والعمل الصالح من أعظم أسباب حصول وحلول الخير فيها؛ وإلا صارت قبورًا، ونشأ جيل لا يعرف الصلة بالله.
فلا بد من العناية بالتربية الإيمانية لا سيما كثرة الصلاة؛ هذا وإن اللحظات الحاسمة في تاريخ الأفراد والأمم لها ارتباط عظيم بالصلاة، فتبشير زكريا -عليه السلام- بالولد كان في الصلاة: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) (آل عمران: 39)، وبشرى الملائكة لمريم -عليها السلام- وقد اتخذت مكانًا شرقيًّا للعبادة كذلك، وفي غزوة بدرٍ وجدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي طوال الليل تحت شجرة، ويدعو ويتضرع، كذلك كان حاله ليلة الأحزاب.
فالعطاءات العظيمة والمنح الإلهية -كما نرى- كانت في محراب الصلاة، فمَن أولى بكثرة الصلاة وحسن التعبُّد من أصحاب الدعوات الربانية؟!
من أولى أن يُعنى بحال القلب وتقويم الأخلاق منكم يا أهل الدعوة؟!
ثم قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، فاليأس داءٌ قاتل... فلا بد من وجود روح الرجاء لتبديد ظلمات اليأس، فمع قهر الظلمة والأعداء وانتشار اليأس يكون القعود، فتحتاج إلى التبشير بنصر الله، وأن الله مظهرٌ دينه وناصر الحق وأهله، وقاهر الظالمين الطغاة وكاسرهم.
وكم هي الآيات والأحاديث التي فيها أن المستقبل لهذا الدين، فنحتاج أن نكثر من مطالعتها مع هذا الإعداد الإيماني الرصين المتين.
فكم لهذا التبشير من أثر ونشاط في العمل الدعوي والعلمي وغير ذلك، وكيف هو حال اليائس؟!
لا شك أن هذه المعاني نحن في أشد الحاجة إليها، وقد اغتنمت هذا الحدث الجلل الذي أصاب دعوتنا للحديث عنها لعل الله -تعالى- أن ينفع بها.