كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد شاء الله -تبارك وتعالى- ونحن نودِّع شهر رمضان لعام 1445 هجرية وفي صبيحة أول يوم من شوال، أن نودع معه "عَلَمًا من أعلام الدعوة السلفية بمصر"، وهو فضيلة الشيخ "أبو إدريس محمد عبد الفتاح".
وهذه سطور قليلة أعرِّف بها الأجيال القادمة بهذا الشيح الجليل، وهي ليست ترجمة معهودة أعرف فيها بكلِّ جوانب الشيخ وأذكر إنتاجه، ولكنها تعريف بأهم ما ميَّزه، وهي أمور مجتمعة كانت محصلتها: أن الناس لا تكاد تراه ولا تسمعه إلا نادرًا.
لم أسعد بأن أكون من جيل المؤسسين حيث بينما كانوا هم يؤسسون تلك الدعوة، كنتُ ما زلت في سنوات عمري المبكرة، ولما مَنَّ الله عليَّ بالالتزام بتلك الدعوة المباركة، وكان شريط الكاسيت حينها وسيلة مهمة لاستدرك ما فات من دروس العلم؛ أقبلتُ على أشرطة: سلسلة الهدى والنور للعلامة الألباني، ودروس الشيخ محمد إسماعيل، ودروس الشيخ ياسر برهامي القديمة، وبينما كنت أتردد على مكتبة أحد المساجد وجدتُ فيه سلسلة صوتية للشيخ أبي إدريس، كان من الواضح من نبرات صوته فيها أنها كانت في مرحلة مبكرة جدًّا، وكانت في شرح كتاب "الروضة الندية"، وكان الشيخ فيها يشرح المسائل الفقهية وما يصادفه من مسائل حديثية وأصولية بطريقة متميزة جدًّا -بفضل الله تعالى-.
وحدثني الشيخ "محمود عبد الحميد" أن هذه الدروس كانت في بداية تأسيس المدرسة السلفية، وكان الشيخ الألباني قد أشار على المشايخ بكتاب الروضة الندية، وأن الشيخ "أبا إدريس" بعد مدة من التدريس تشاور مع المشايخ وغيروا المنهج إلى كفاية الأخيار، ثم استقر الأمر على منار السبيل، وبالطبع كان العامل الأبرز في اختياره هو توفر تحقيق وافٍ له، وهو: "إرواء الغليل" للعلامة الألباني.
ومن هنا كان للشيخ -رحمه الله- دور بارز في تدشين منهج الدراسة الفقهية في معهد الفرقان -المعهد العلمي للدعوة السلفية-، وهو تبني كتاب مذهبي؛ لكون الكتب المذهبية تتسم بالتحرير وحُسن الترتيب، والاختيار بين المذهب الشافعي أو الحنبلي؛ لقربهما من السنة أكثر، مع عدم اعتبار هذا الاختيار انتماءً مذهبيًّا، ومع التأكيد على أن يعتني مَن يدرِّس في المعهد ببيان الحكم والدليل، ومنهج الاستنباط؛ لتنمية الملكة الفقهية لدى الطلاب.
والشاهد: أن الشيخ كان له شغفه بالعلم دراسة وتدريسًا؛ لا سيما الفقه، حتى لقَّبه أقرانه بـ"أبي إدريس" من فرط حبه للشافعي -رحمه الله-.
ولكنه في تصاعد أحداث الانفصال عن الجماعة الإسلامية بعد سيطرة الإخوان عليها، قرَّر أن يكون الحارس الأول لأهمية العمل الجماعي، وهو أمر تبنته الدعوة منذ نشأتها -بفضل الله-، وتجنَّبت ما وقع فيه كثيرٌ غيرها بمقابلة غلو الإخوان في التنظيم، بالجنوح إلى بدعية العمل الجماعي.
والعجيب: أن كثيرًا من الدعاة يبدِّع العمل الجماعي، فإذا جاءت الملمات طالب بتقليد الإخوان؛ زعمًا بأنهم رجال المرحلة، وأنهم منظَّمون، بينما السلفيون ليسوا كذلك!
نعم، تبنَّت الدعوة كلها -بفضل الله- القول بمشروعية العمل الجماعي، بينما قرر الشيخ "أبو إدريس" أن يكون هذا هو ميدان بذله الأكبر.
تبنت الدعوة في كلِّ مراحلها هيكلًا إداريًّا بسيطًا، ومسارات إدارية مرنة؛ مما يجعلك تصنفها أن ما تملكه لا يرقى أن يكون هيكلًا إداريًّا، ولكن كان على رأس المؤسسة رجل يستطيع أن يخرج من ذلك كل مفردات العمل المؤسسي.
ثم لما سنحت الفرصة وأُسِّس كيان قانوني للدعوة السلفية، وإن كان في النهاية -لأسباب يطول شرحها- حمل اسم: "جمعية الدعاة الخيرية" كرَّس الشيخ أبو إدريس وقته للعمل المؤسسي في كيان الدعوة، والذي كان من أهم مظاهره: القيادة الجماعية، والشورى، والقرار الجماعي الذي يتساوى فيه صوت رئيس مجلس الإدارة مع أي عضو فيه؛ بثَّ ذلك في هيكل المؤسسة من مجلس الإدارة العام وحتى آخر وحدة في هيكل المؤسسة.
هذا العقل المؤسسي، كان معه قلب نابض بحبِّ الدعوة الإسلامية ككل، وبحب الكيان الذي انتمى إليه وشرف بقيادته.
زرت الشيخ في مرض موته الأخير بعد حدوث تحسن نسبي في حالته الصحية، وهي حالة يتراءى أمام الفرد فيها دنو أجله، وإن صبَّره مَن حوله أو طمأنه الأطباء، وحينئذٍ يظهر بأي شيء يتعلق القلب؛ فكان أن أوصاني قائلًا: منذ أن تطورت الاتصالات ووجدت الاجتماعات "الأون لاين" وكثير من أعضاء مجلس الإدارة تراودهم فكرة: ولماذا يأتي الشيخ عادل نصر من الفيوم، والشيخ جلال من السويس، والشيخ يونس من البحيرة، و... ولماذا لا نجتمع أون لاين؟!
قال: ولذلك وجدتني حريصًا على حضور الاجتماعات رغم مرضي؛ لأني أتقرب إلى الله أن أبقي هذا الكيان فيه القدر المناسب من الإدارة، وإذا لم يتم الاجتماع الفعلي فلن يتم التشاور الفعلي، ولا المتابعة الكاملة، ويوشك بعدها أن ينفك عقد هذه الإدارة، فوصيتي لكم إن جاءني أجلى أن تحافظوا على لقائكم واجتماعكم وتشاوركم.
قال: ومثلك لا يحتاج أن يوصَّى على الشيخ ياسر، ولكني سأوصيك أنت وكل أعضاء مجلس الإدارة: اهتموا به، واعتنوا بحالته الصحية، بارك الله لكم فيه.
وسبحان الله! دائمًا ما ينصرف من يلتقي الشيخ وقد رنت في أذنه وصاياه، وقد كتب فضيلة الشيخ عادل نصر عن بداية عمله في الدعوة وكيف ذهب للشيخ يشكو له كثرة المناهج البدعية حوله، وكانت نصيحة الشيخ رحمه الله له: "الحل في العمل الدعوي الجاد، وحينما ينتشر الصواب يكون أمام الخطأ والانحراف واحد من أمرين: إما أن يضعف ويتلاشى، وإما أن يذوب وينصهر في الحق تلقائيًّا".
وكذا كان من آخر نصائحه -رحمه الله- لأخينا سامح بسيوني -ولعل كلًّا منا تمر به لحظات يحتاج فيها لمثل هذه النصيحة-: "من ابتعد عما مَنَّ به الله عليه من عمل إصلاحي بحجة أنه لا يريد أن يتعكر قلبه بسبب منغصات هذا الطريق وعوائقه، فإن قلبه سيتعكر عليه ويضيق بأي سبب آخر من أسباب تلك الدنيا المهلكة، وهذا الطريق الإصلاحي عاقبته -إن شاء الله- رضوان من الله، لكنه يحتاج إلى احتساب صادق، وصبر حقيقي، مع حكمة وطول نَفَس".
عاش الشيخ بهذا الحب للدعوة، ولكل مَن ينبغ فيها صغيرًا أو كبيرًا، ولا أدري في أي مرحلة من تاريخه قرَّر أنه بحسبه أن ينكفأ على داخل الدعوة، ولا يكون له دروس ولا فاعليات؛ إلا مشاركات في الفاعليات التي تخص إدارة الكيان، ليلقي فيها توجيهاته.
لقد كان اجتهاده أن كل الميادين الأخرى يوجد مَن يقوم بها ويكفيه إياها، فتفرغ لإدارة الكيان داخليًّا، ونحن نريد أن نرث مِن شيخنا عقله المؤسسي وحبه العميق لدعوته، ولكل مَن يبذل فيها، ولكل من يعطي فيها بأي عطاء؛ صغيرًا كان أو كبيرًا.
بل وأن نجاهد أنفسنا أننا لا نريد من عملنا إظهار عمل أو إخفائه إلا مرضاة الله -تعالى-، وما ترجح لدينا أنه هو المصلحة الشرعية.
رحم الله الشيخ أبا إدريس رحمة واسعة، وجمعنا به في الفردوس الأعلى. اللهم آمين.