الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الثلاثاء 12 مارس 2024 - 2 رمضان 1445هـ

القدس بدأت إسلامية.. وستظل إسلامية ولو كره الكافرون (2) (من تراث الدعوة)

كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالمسجد الأقصى بُنِيَ على التوحيد والإيمان والإسلام واتِّبَاعِ الأنبياء، ولم يُبْنَ على الكفر والتكذيب قَطّ؛ فإذا ضَيَّعَتْهُ الأُمَّةُ المُسْلِمة بتفريطها وإساءَتِها نَزَعَهُ اللهُ -عزَّ وَجَلَّ- منهم.

وفي أخبار أهل الكتاب أن الرومان هم الذين هدموا "المسجد الأقصى" المرة الثانية، بعد أن سَلَّطَهُم اللهُ عليهم -بإفسادِهِم وكِبْرِهِم- ودَمَّرُوا البَلَدَ تَدمِيرًا؛ قال -تعالى-: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي: إذا جاءت المرة الآخرة مِن الإفسادتين، جاء وقت العقوبة عليها: (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسراء:7).

وبُعِثَ يحيى وعيسى -عليهما السلام- والمسجدُ مهدوم، وظَلَّ مَهدُومًا إلى عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-.

وعندما فَتَح المسلمون "بيت المقدس" سنة 16 مِن الهجرة في عهد أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب -رَضِي اللهُ عَنهُ- بنى عُمَر "المسجد الأقصى"، وجعل الصخرة خلف قِبْلَتِه، ولم يقبل ما أشار عليه "كعب الأحبار" أن يبنيه خلفها لتكون الصخرة في جهة القبلة؛ حتى لا تُعَظَّمَ بالصلاة إليها مع الكَعْبَة.

وكان هذا دليلًا على أن الأُمَّة إنما يعود لها المسجد بالإسلام والإيمان بغض النظر عن النَّسَب؛ فبنو إسرائيل غيرُ المسلمينَ المُؤمنينَ ليسوا وارثين للأرض المُقَدَّسَة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105).

وقد أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أصحابَه -وَهُم بَعْدُ في دَولَةٍ صغيرةٍ- أنهم فاتحون "بيت المقدس" بعد موته، كما في الحديث الصحيح في البخاري، عن عوف بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَالَ: (اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوَتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ -أي: راية- اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا) (رواه البخاري). أي: تسعمائة وستون ألف مقاتل، وقد وَصَفَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وُقُوعَ الملحمة الكبرى وهلاكَهم، والظاهر أن ذلك في زمن "المَهْدِيّ" -رضي الله عنه-.

وبنى عبد الملك بن مروان مسجد "قبة الصخرة" في فترة مُلْكِه.

ثم لما وقع التفريط مِن المسلمين في المائة الخامسة مِن الهجرة، وتَسَلَّطَ عليهم أَهْلُ البِدَع -المُظْهِرون للرَّفْضِ والتَّشَيُّع، المُبْطِنُون للكفر والإلحاد- من بني عبيد القَدَّاح -الذين عُرِفوا في التاريخ بالفاطميين-، وتَرَك المسلمون في دولة العباسيين ما أُمِروا به مِن العدل والشرع والجهاد؛ سَلَّطَ اللهُ الصليبيين على "بيت المقدس" سنة 492 مِن الهجرة 1099 مِن الميلاد، فَقَتَلُوا كُلَّ مَن بها مِن المسلمين، ورَفَعوا صَلِيبًا على "قبة الصخرة"، وجعلوا "المسجد الأقصى" إسطبلًا للحيوانات، ولم يهدموه.

وظل تحت احتلالهم 88 سَنَة، حتى أعادَهُ اللهُ على يدي "صلاح الدين" امتِدَادًا لعهد الإصلاح على يد نور الدين محمود -رحمهم الله-، وذلك بعد إنهاء المملكة الباطنية المَعروفة زورًا بالفاطمية، وألغاها "صلاح الدين"، ورَدَّ مصر إلى السُنَّة، ونَشَر فيها كُتُبَ السُنَّة وفِقْهَ المذاهب الأربعة؛ فاجتمع له بعد موت "نور الدين" مُلْكُ مصر والشام، وتَوَحَّدَ البلدان، وانتصر المسلمون على الصليبيين في "حِطِّين"، وفُتِح "بيت المقدس" سنة 583 من الهجرة، والحمد لله.

وظل في أيدي المسلمين إلى أن وقع الفساد في "الدولة العثمانية" في قرونها الثلاثة الأخيرة، وعَمَّت البِدَع، وانتشر الظلم، وحَارَبوا دعوات الإصلاح -التي منها دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ الله-، وظَهَرَت النعرات "القومية التركية"، وكَرَدِّ فِعْلٍ عليها ظهرت "القومية العربية"، وتَفَرَّقَت الأُمَّة، وهُزِمَت "الدولة العثمانية" في الحرب العالمية الأولى سنة 1917م، ودَخَل الحُلَفَاءُ إلى "القُدْس" في هذه السَّنَة، ووُضِعَت "فلسطين" كلها تحت الانتداب البريطاني، ثم صدر "وَعْد بِلْفُور" -في تلك السَّنَة- بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وَعْدٌ ممَن لا يملك لمَن لا يستحق، دون رضى من أهلها المسلمين ولا من غيرهم من المسلمين في أرجاء الأرض.

وظَلَّت الأُمَّة تترنح بعد سقوط الخلافة وتفرّق الدول وانتشار العلمانية واحتلال الغرب لعامة بلادها -ربما عدا بلاد الحرمين وبعض البلاد الفقيرة- وتم تنفيذ المخططات العالمية للصهيونية بالتمكين لليهود في فلسطين.

وأُقِيمَت دولة إسرائيل، التي يبرأ منها إسرائيلُ -يعقوبُ عليه السلام- سنة 1948، ولم يدخلوا إلى ناحية "المسجد الأقصى" لكيلا تهيج عواطف المسلمين، وصدر قرار التقسيم، وظل "المسجد الأقصى" تحت الرعاية الأردنية.

ثم دخلت القوات الإسرائيلية في 5 يونيو عام 1967 إلى "القدس" كلها، وأعلنوا توحيدها تحت سُلْطَانِهِم -الجزء الغربي، والجزء الشرقي- ولم يُغَيِّروا شيئًا مِن "المسجد الأقصى" وَقتَها؛ بل ظلت الصلوات تقام -في الأغلب- إلى وقتنا هذا.

ولكن بَدَأَت محاولات الحفريات وإحراق المسجد عدة مرات، والسماح بدخول اليهود إليه -وإنا لله وإنا إليه راجعون- عَدْلًا مِن الله على الأُمَّة الإسلامية؛ فليس الأمر بأَمَاِنِّينا ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (النساء:123).

ثم حَارَب المصريون حرب رمضان، أكتوبر سنة 73، واستردوا "سيناء" بعد جهودٍ كبيرةٍ، لكن لم يستطع أَحَدٌ أن يتكلم على "القدس" و"المسجد الأقصى"؛ إذ أَعلَنَها الكيان الصهيوني عاصمة لهم، ولم يقبل أكثرُ العالَم ذلك، حتى جاء "ترامب" يُنَفِّذُ الوعد بنقل السفارة الأمريكية للقدس؛ ليفتح الباب أمام جميع الدول الدائرة في فَلَك "الولايات المتحدة" لتفعل ذلك؛ مُسْتَغِلًّا حالة الضعف الشديد التي تعم البلاد العربية والإسلامية، والتَّفَرُّق والاختلاف والفوضى -الخَلَّاقَة للشَّرِّ- في كثير من بلادهم التي تقترب مِن "القدس"، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن وَعْد الله بعودة "القدس" إلينا عَقيدةٌ رَاسِخَةٌ لا تتبدل؛ لأنها في القرآن: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور:55)؛ فبالإيمان والعمل الصالح، وبإفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، وترك الشرك ومُحَارَبَتِه: تنتصر الأُمَّةُ، وتعود لها أرضها (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ) (الصافات:173).

وقد أخبر النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أن الدجال يهودي، كما في حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ في صحيح مسلم، وهو "مَسِيحُ الضَّلَالة" الذي ينتظره اليهود إلى الآن؛ إذ كَذَّبُوا المسيح الحق عيسى ابن مريم -عليهما السلام-، ورَمَوا أُمَّهُ بالبُهْتَان العظيم، ثم كَذَّبُوا محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وللكافرين عَذَابٌ مُهين) (البقرة:90)، وأَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أنه يتبع الدَّجَّال من يهود أصبهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة "وأصبهان في إيران"، والحديث رواه مسلم.

وأَخْبَرَ أن المسيح عيسى ابن مريم -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ينزل عند المنارة البيضاء، شَرْقِيَّ دمشق، فيُصَلِّى خلف إمام المسلمين -تكرمة الله لهذه الأُمَّة- ويصبح هو القائد للأُمَّة؛ قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ) (رواه البخاري). أي: لا يقبلها-، ويطلب المَسيحَ الدَّجَّالَ فيُدْرِكُه بباب لُدٍّ -قرية موجودة إلى الآن من قرى بيت المقدس- فيَقْتُلُه، ويريهم دَمَه في حَرْبَتِه.

وفي زمنه تكون المِلَّةُ واحدة -هي الإسلام- فيؤمن ويسلم كلٌّ اليهود والنصارى؛ يؤمنون بالمسيح -عليه السلام- عَبْدًا ورَسُولًا، وبمحمدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَاتِمًا للنبيين؛ قال الله -تعالى-: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا . وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:156-159).

فـ"القُدْسُ" تبقى إسلامية، وستظل إسلامية، وحَوْلَها الملاحم الكبرى قبْل السَّاعة؛ ومهما اغتر البعض بقُوَّتِهِم الزائفة -الزائلة إن شاء الله- فلن تَدُومَ لَهُم، وسوف يهدي الله الأُمَّة وتصحو مِن غَفْوَتِها، وتعود لنُصْرَةِ دِينِها، فتعود لها عزتها؛ فَلَا تَيْأَسُوا مِن رَوْحِ اللهِ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَوْحِ الله إلا القَوْمُ الكَافِرُونَ.

نسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُعَاِفَي المسلمين وبِلَادَهُم مِن كُلِّ سُوءٍ.