السؤال:
رأينا مشاهد عجيبة متعلِّقة باغتيال الصحفية الفلسطينية المسيحية "شيرين أبو عاقلة"، فمِن الناس مَن جعل يترحَّم عليها، ويسأل الله لها الرحمة -مع أنها غير مسلمة-، ومنهم مَن صلَّى عليها صلاة الغائب، وقرأ لها القرآن، بل سمعنا أن هناك مَن ذبح واعتمر عنها! فما حكم مَن يقوم بهذه الأعمال؟ وهل يصل مَن فعل ذلك إلى درجة الكفر والشرك -والعياذ بالله-؟
وهناك مَن استدل بنصوصٍ شرعيةٍ على تجويز الترحم والاستغفار لها: كاستغفار إبراهيم وعيسى -عليهما السلام- لعموم الناس.
وهناك مَن يُطلِق لفظ الشهادة عليها، ويقول: إن الشهادة أنواع.
وهناك مِن الناس مَن قال: "إن الكفار يدخلون الجنة، وإنها ليست حكرًا على المسلمين!"، وأيضًا: "الأبله الذين يظن أن الله خلق ملايين البشر ليقوموا بدور الكومبارس فلا يدخل الجنة إلا المسلمين!"، وكذلك: "إذا لم تدخل شيرين الجنة فنحن لا نريد دخول هذه الجنة!".
فما حكم هذه المواقف والأقوال في ميزان الشرع؟ نرجو الاستفاضة في بيان ذلك لأهمية الموضوع، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا نِزَاع بين العلماء المُعْتَبرين في عدم جواز الصلاة والاستغفار والترحم على مَن مات مِن الكفار؛ قال الله -تعالى-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ . وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 113-114).
والترحُّم إذا أُطلِق على ميتٍ؛ فهو في الآخرة النجاة مِن النار، وهذا بإجماع المسلمين لا يحصل لكافرٍ بلَغَتْه دعوةُ الإسلام، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؛ فلا خلاف في أن كلَّ كافرٍ مات على كفره؛ فهو مِن أهل النار مخلَّد فيها، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (النساء: 48)، وقال -تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (البينة: 6).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم).
وأما قول إبراهيم -عليه السلام-: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم: 36)؛ فهو إما فيما دون الشرك مِن الذنوب، أو دعاء لكافرٍ حي أن يتوبَ اللهُ عليه.
وأما قول عيسى -عليه السلام- في الآخرة: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (المائدة: 118)، فهو كمال التفويض لله في أمر الخَلْق؛ لأنه أعلم بمَن قامت عليه الحجة الرسالية ممَّن لم تقم عليه، أما مَن قامت عليه الحجة الرسالية التي يكفر مخالفها؛ فقد أخبرنا الله -سبحانه- في كتابه عن مشيئته فيهم أنه لا يَغْفِر لهم، وأنهم مخلَّدون في الجحيم.
وأما تخفيف العذاب عن كافرٍ أحْسَن إلى المسلمين؛ فلا يُمنَع مِن ذلك، ولكن لا يُطْلَق القولُ بالترحم عليه أو وصفه بالشهادة.
أما تحريف الكلم عن مواضعه بالقول بتنوع ما تُطلَق عليه الشهادةُ؛ فليس محتمَلًا ولا سائغًا؛ لأن الناسَ إنما تستعمله فيمَن قُتِل وبوصف المدح والثناء، وليس على مجرد شاهد في محكمة، أو نحو ذلك؛ حتى يُقَال: لا بأس بإطلاق لفظ الشهيد على كافرٍ يخلَّد في النار؛ لأن إطلاقَ لفظ الشهداء في القرآن والسنة كان على المدح والثناء، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69)، وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (الحديد: 19).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)؛ فهذا لا نزاع فيه بين أهل العلم.
والذي يفعله الناسُ ويقولونه هو أنواعٌ، منه: ما هو كفرٌ بلا نِزَاع كمَن يقول: إن الكفارَ يدخلون الجنة، وإنها ليست حِكْرًا على المسلمين!
وقول مَن يقول: الأبله الذين يظن أن اللهَ خَلَق ملايين البشر ليقوموا بدور الكومبارس؛ فلا يدخل الجنة إلا المسلمين!
ومَن يقول: إذا لم تدخل "شيرين" الجنة؛ فنحن لا نريد دخول هذه الجنة!
ومنها ما هو ضلال ومنكر: كقراءة الفاتحة لها، والترحم والدعاء والاستغفار لها، ومنها ما هو جائز: كمجرد التعزية، واستنكار جريمة قتلها، والقول بأنها مظلومة في أن تُقتَل. والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومسائل التكفير للمُعَيَّن لا بد أن يُراعَى فيما لم تنتشر به الحُجَّة شروط التكفير وانتفاء موانعه، ولا يقول بكفر المُعَيَّن إلا أهل العِلْم، أو القضاء الشرعي بعد التثبُّت.