كتبه/ عصام حسنين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مما ينبغي أن يعوِّد عليه الأبوان طفلهما: الاعتدال في الطعام والشراب، كما أمرنا الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولمنافعه العظيمة، فقد جمع الله -تعالى- الطب كله في نصف آية، فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَة) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).
والسرف: هو الإسراف ومجاوزة الاعتدال. والمَخِيلة: هو الاختيال والكبر.
(وَلَا تُسْرِفُوا) أي: في كثرة الأكل. وعنه -أي: عن كثرة الأكل- يكون كثرة الشرب، وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه، والأخذ بحظه من نوافل الخير، فإن تعدَّى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام بالواجب عليه حرم عليه، وكان قد أسرف في مطعمه ومشربه.
وقال ابن زيد: معنى (وَلَا تُسْرِفُوا): لا تأكلوا حراما.
وقيل: من الإسراف: الأكل بعد الشبع، وكل ذلك محظور.
وقال لقمان لابنه: "يا بني لا تأكل شبعًا فوق شبع، فإنك أن تنبذه للكلب خير من أن تأكله".
وسأل سمرة بن جندب عن ابنه: "ما فعل؟ قالوا: بَشِم البارحة -بشِم مِن الطَّعام: أكثر من تناول الطّعام حتّى بشِم. قاموس المعاني- قال: بشم! فقالوا: نعم. قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه!".
فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكَّن الظمأ، فمندوب إليه عقلًا وشرعًا؛ لما فيه مِن حفظ النفس وحراسة الحواس؛ ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال؛ لأنه يُضعف الجسد ويُميت النفس، ويُضعف عن العبادة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل.
- وليس لمَن منع نفسه قدر الحاجة حظّ من بر ولا نصيب من زهد؛ لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابًا وأعظم أجرًا.
- وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين: فقيل حرام. وقيل مكروه. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان، والأسنان والطعمان.
قال ابن عاشور: "فَالنَّهْيُ عَنِ السَّرَفِ نَهْيُ إِرْشَادٍ لَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، بِقَرِينَةِ الْإِبَاحَةِ اللَّاحِقَةِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32)؛ وَلِأَنَّ مِقْدَارَ الْإِسْرَافِ لَا يَنْضَبِطُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَلَكِنْ يُوكَلُ إِلَى تَدْبِيرِ النَّاسِ مَصَالِحَهُمْ".
- ثم قيل: في قلة الأكل منافع كثيرة، منها:
أن يكون الرجل أصح جسمًا، وأجود حفظًا، وأزكى فهمًا، وأقل نومًا، وأخف نفسًا.
وفي كثرة الأكل كظ المعدة، ونتن التخمة، ويتولد منه الأمراض المختلفة، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل.
وقال بعض الحكماء: أكبر الدواء تقدير الغذاء.
وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بيانًا شافيًا يغني عن كلام الأطباء، فقال: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
قال علماؤنا: لو سمع بقراط هذه القسمة، لعجب من هذه الحكمة.
ويذكر: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين -ابن واقد-: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان. فقال له علي: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا. فقال له: ما هي؟ قال: قوله -عز وجل-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا). فقال النصراني: ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب. فقال علي: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطب في ألفاظ يسيرة. قال: ما هي؟ قال: المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عوّدته -قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذا الحديث إنما هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قاله غير واحد من أئمة الحديث" (الطب النبوي)- فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبًّا!".
وروي أن ابن ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: "لو استعمل الناس هذه الكلمات يعني من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ)؛ لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات -المستشفيات-، ودكاكين الصيادلة!".
وفي الإحياء: "ذُكِرَ هذا الحديث يعني تقسيم البطن أثلاثًا لبعض الفلاسفة فقال: ما سمعت كلامًا في قلة الأكل أحكم من هذا!".
ولا شك أن أثر الحكمة فيه واضح، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنها أسباب حياة الحيوان.
وقال الحارث بن كلدة: "الذي قتل الذرية، وأهلك السباع في البرية، إدخال الطعام على الطعام، قبل الانهضام".
وروى مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- حض على التقليل من الدنيا والزهد فيها، والقناعة بالبلغة.
- قال الخطابي -رحمه الله-: "معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ): أنه يتناول دون شبعه، ويؤثر على نفسه، ويبقي من زاده لغيره، فيقنعه ما أكل".
وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل وتذم بكثرته.
قال حاتم الطائي: "يذم بكثرة الأكل فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك، نالا منتهى الذم أجمعا" (انتهى بتصرفٍ من تفسير القرطبي - تفسير ابن كثير - التحرير والتنوير - غذاء الألباب).
قال الدكتور عبد الجواد الصاوي: "وجه الإعجاز في الحديث: الإفراط في الطعام والشراب شر وخطر على صحة الإنسان. ولقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان في عبارة بليغة موجزة هي: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)".
وهكذا عرف هذا الشر بيقين في هذا العصر، بظهور الأمراض الخطيرة المهلكة للإنسان الناتجة بسبب الإفراط في تناول الطعام، وذلك بعد تقدم وسائل الفحص والتشخيص الطبي الدقيق الذي أفضى لمعرفة حقيقة هذا الشر، وبينما كان علماء المسلمين يحذرون الناس من أخطار التخمة وكثرة الأكل عبر خمسة عشر قرنًا؛ استنادًا لحديث نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ كان غيرهم يعتقدون أن كثرة الأكل مفيدة غير ضارة، ويتسابقون في ملء البطون بالطعام والشراب؛ ففي إنجلترا يتحدث الطبيب (تشين) (1671 ـ 1743م) عن عقيدة البروتستانت في الإفراط في الطعام والشراب، فيقول:" لست أدري ما عليه الأمر في البلدان الأخرى، ولكن نحن البروتستانت لا نعتبر الإفراط في تناول الطعام مؤذيًا ولا ضارًّا، حتى إن الناس يحتقرون أصدقاءهم الذين لا يملؤون بطونهم عند كل وجبة طعام!
وبعد أن أدرك هذا الطبيب من بين جميع الأطباء المعاصرين له أخطار كثرة الأكل، حمَّل الأطباء المسؤولية في عدم إرشاد الناس لهذه الأخطار فقال: والأطباء لا يدركون أنهم المسؤولون أمام المجتمع وأمام مرضاهم بل أمام الخالق؛ لأنهم يشجِّعون الناس على الإفراط في الطعام والشراب؛ ذلك لأنهم بهذا يعملون على تقصير آجال كثير من مرضاهم" (آلان كوت. الصوم الطبي النظام الغذائي الأمثل).
ولم ينتبه علماء أوروبا إلى هذه الأخطار إلا في عصر النهضة، فأخذوا يطالبون الناس بالحدِّ من الإفراط في تناول الطعام، وترك الانغماس في الملذات والشراب؛ فهذا أحدهم (لودفيك كارنارو) من البندقية يحذِّر أمته من هذه الأخطار، حيث كان مما قال: "يا إيطاليا البائسة المسكينة! ألا ترين أن الشهوة تقود إلى موت مواطنيك أكثر من أي وباء منتشر أو حرب كاسحة؟!"، "إن هذه المآدب المشينة والتي هي واسعة الانتشار اليوم، لها من النتائج الضارة ما يوازي أعنف المعارك الحربية"، "لذلك يجب علينا ألا نأكل إلا بقدر ما هو ضروري لتسيير أجسامنا بشكل مناسب"، "وإن أية زيادة فيما نتنـاولــه من كميــات الطعام تعطينا سرورًا آنيًّا، ولكن علينا في النهاية أن ندفع نتائج ذلك مرضًا، بل موتًا في بعض الأحيان!".
ولعل اكتشاف أمراض السمنة وأخطارها المهلكة وعلاقة ذلك بالشراهة وكثرة الأكل، يجعلنا نزداد يقينًا بعظم القاعدة الذهبية في حفظ الصحة البشرية المتمثلة في ترشيد الأكل والشرب والتي أرشد إليها قول الله -تعالى-: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلا تُسْرِفُوا)".
الإعجاز العلمي في حديث الثلث:
ومما نأسف له أن كثيرًا مِن المسلمين قد أضاعوا هذا الهدي الكريم؛ فظهرت عليهم التخمة، وعبوا من ملاذ الدنيا؛ مما أثر سلبًا على صحتهم ونشاطهم، بل وأولادهم أيضًا، فعودة عودة إلى خير الهدي؛ هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى نسعد في الدنيا، ونفوز ونفلح في الآخرة.
فيستعمل الأبوان الكريمان هذا الهدي الكريم في طعامهما وشرابهما حتى يكون راسخًا عندهما، يأخذه عنهما أطفالهم؛ لأنهما موضع نظرهم، والحسن عندهم ما حسناه، والقبيح ما قبحاه، والحذر مِن أسباب البدانة التي هي أصل الداء، مع تعويدهم آداب الطعام والشراب التي سبق الكلام عنها في مقال التربية الأخلاقية والاجتماعية.
وللحديث بقية -إن شاء الله-.