كتبه/ وائل رمضان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زال نداء نوح -عليه السلام- لابنه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا) (هود:42)، يمثِّل أعظم نداء أبوي فيه تحنن وتحبب، وتلطّف وتودّد، وتقرّب ورأفة ورحمة في لحظةٍ رهيبةٍ حاسمةٍ؛ هذا النداء الرقيق الذي يُخفي خلفه صرخات من الحسرة والألم على حال هذا الابن الشارد، هو حال كل أب يرى ابنه على غير ما كان يأمله، أو يراه يسير في طريق غير الذي كان يرسمه، أو يراه شاردًا تائهًا في دروب الحياة؛ صرخات كثيرة موجعة تنكأ جراحات الواقع، وتفتح نافذة الألم، والإجابة عنها أشد إيلامًا.
فالعين الراصدة تلحظ تدهورًا في الأخلاق، وتغيرًا في الأحوال، وانقلابًا للموازين، ولسان حال البعض يقول: رحم الله زمانًا كان فيه الأبناء يضعون آباءهم في قلوبهم، ويجلونهم بأعلى درجات الإجلال والاحترامِ، لكن الأيام تغيرت، وانقلبت الأخلاق رأسًا على عقب، حتى أضحى العقوق مستساغا، وشيئًا مألوفًا، وظاهرةً متكررة، مما يدق ناقوس الخطر لتخلي كثيرٍ مِن الأبناء عن عاطفة المحبة والرحمة نحو آبائهم، وعدم إدراكهم لحقيقة مشاعر آبائهم نحوهم.
متى يدرك الأبناء أنَّ الله جَبَل الوالدين على محبتهم والشفقة عليهم، والرحمة بهم، وإيثارهم بالمصالح والملذات، والخوف عليهم من أسباب العطب والهلاك؟
ومتى يدرك الأبناء أنَّ محبة آبائهم لهم حالة فريدة مِن الحب الصادق الفِطري لا يَشوبه أيُّ غرض أو مصلحة؛ لأنهم جزء منهم وامتداد لهم، فحبهم لهم أمر لا يمكن التشكيك فيه؛ لأن ذلك هو الأصل، ولكن العكس كثيرًا ما يحدث؟!
ومتى يدرك الأبناء أن آباءهم مهما لاقَوا من الشدائد والمتاعب والآلام في سبيل تربيتهم، فإنهم يُحبُّونهم حبًّا قويًّا غامرًا؟! بل كلما ازدادت متابعهم، ازداد حبُّهم والعطف عليهم، وهذا مِن فضل الله -تعالى- ورحمته بالبشرية، ولولا هذه المحبة، وهذا العطف، ما تربَّي الأبناء، وما عاشوا أسوياء، فمحبة آبائهم درع حصين يتدرَّع لهم في حياتهم، يتَّقون بها شرور الحوادث في حاضرهم ومستقبلهم.
ومتى يدرك الأبناء أنهم ثمرة حياة آبائهم، وهم الذين يتمنون بصدق وإخلاص أن ينجحوا في حياتهم، وأن يرتفع شأنهم بين الناس، فلا يمكن أبدًا أن يحقدوا عليه، أو يغاروا منهم، أو يكرهونهم، بل هم الوحيدون الذي يتمنون أن يكونوا خيرًا منهم؟!
وصدق المصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم -حيث يقول في حقِّ ابنته الزهراء -رضي الله عنها-: (فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي) (متفق عليه)؛ والبضْعَة: القطعة، وطبيعي أن يكون للبعض مِن التوقير والاحترام ما للكل؛ فهذا منه -صلى الله عليه وسلم- تعظيمٌ لحق فاطمة -رضي الله عنها-.
متى يرق الأبناء لقلوب آباء ضعفاء أضناهم الشوق، وألجمهم الحزن، وجرت مدامعهم، وحزنت قلوبهم، يخشون أن يرفعوا أكف الضراعة بالشكوى لله رب العالمين؛ لأنها إن ارتفعت فوق الغمام واعتلت إلى باب السماء، أصاب الأبناء شؤم العقوق ونزلت بهم العقوبة وحلَّت بدارهم المصيبة، ولسان حالهم يقول: لا تزال يا بني فلذة كبدي وريحانة حياتي وبهجت دنياي؟!
ليت الأبناء يدركون حقيقة مشاعر آبائهم فيوقرونهم حق التوقير، ويحبونهم ويحسنون إليهم؛ فأكثر الأبناء لا يعي حقيقة هذه المشاعر إلا عندما يصبح والدًا؛ وقتها يدرك ويقدِّر حقيقة الوالدية وعظم حقّها، ورفعة مكانتها، وبعضهم ربما لا يدرك ذلك إلا عندما يكون الأمر قد فات، فيندم ولات ساعة مندم، ويتحسر إذ لا تنفع الحسرة، فما جدوى قبلة اعتذار على جبين ميت غادر الحياة!