الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ياسر برهامي
الأحد 24 فبراير 2008 - 17 صفر 1429هـ

كيف نتأدب مع الله (3-3)

كتبه/ عصام حسنين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فنواصل معاً مسيرتنا في طريق الأدب مع الله فنقول:

خامساً:

ومن الأدب مع الله -تعالى- إحسان الظن به ورجاء فضله ورحمته ووعده إذا عملت بطاعته، ورجاء مغفرته؛ وإحسانه وجوده إذا تبت إليه من ذنوبك، وهذا من أجلَِّ منازل العابدين، وعليه وعلى الخوف والحب مدار السير إلى الله -تعالى-، وقد مدح الله -تعالى- أهل رجائه فقال:- (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)(الأحزاب:21)، وأخبر -تعالى- أنه عند ظن عبده به فقال فيما رواه عنه -صلى الله عليه وسلم-: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) رواه البخاري، وفي رواية عند أحمد: (أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيراً فله وإن ظن شراً بي فله).

وظن الشر هو ظن السوء، ظن الجاهلية الذي ذم الله به المنافقين؛ قال -تعالى-: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ )(آل عمران:154)، فـُسِّر ظن الجاهلية بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم الله أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأن يظهره على الدين كله.

فأحسِّن الظن بالله -تعالي- من جميع وجوه الكمال المستحق له، وظن بنفسك الغافلة الجاهلة ظن السوء.

قال علي -رضي الله عنه-:

فلا تظنن بربك ظـن سـوء                   فإن الـلـه أولي بالجميل

ولا تظنن بنفسك قط خيراً                   فكيف بظالم جانٍ جهول

قال ابن القيم -رحمه الله-: "فالنفس هي الأولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى" أ.هـ.

ولنعلم أن الخوف الذي يبعث على العمل، ولا ينقلب يأساً ينبغي أن يغلب علي الرجاء في حالة الصحة، وأما إذا نزل المرض أو الموت؛ فيغلب الرجاء وحسن الظن برحمة الله وعفوه ومغفرته. قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) رواه مسلم.

قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: "كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن الظن بربه".

ولما احتضر أبو بكر بن عياش -رحمه الله- وبكوا عليه قال: "لا تبكوا؛ فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة".

وقال لابنه: "علام تبكي، والله ما أتى أبوك فاحشة قط".

وآدم ابن أبي إياس -رحمه الله- ختم القرآن وهو مسجىً للموت ثم قال: "بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا، كنت أرجوك لهذا.. "لا إله إلا الله" ثم قضى -رحمه الله-. وعبد الصمد الزاهد قال عند موته: "سيدي، لهذه الساعة خبأتك، حقق حسن ظني بك".

ولما حضرت أبا الوفاء ابن عقيل -رحمه الله- الوفاة، بكى النسوة؛ فقال: "قد وقفت عنه خمسين سنة؛ فدعوني أتهنأ بلقائه".

قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ)(العنكبوت:5).

سادساً: ومن الأدب مع الله -تعالى-، دعاؤه دعاء ثناء ودعاء مسألة، والانطراح بين يديه، والتعلق به -تعالى- كتعلق الطفل بوالديه، بل أشد كما قال الله -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)(البقرة:200)، وأن تنسب كل خير وطيب إليه -تعالى-، وتثني به عليه، وأن تنسب إلى نفسك الجهولة اكتساباً كما قال سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-: (الخير كله في يديك والشر ليس إليك....) رواه مسلم.

سابعاً: تعظيم أمره ونهيه -تعالى-؛ لأنه من تعظيمه، قال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)(الحج:30).

وقال -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:32).

قال ابن تيمية -رحمه الله- في صفة تعظيم الأمر والنهي: "ألا يعارضا بترخيصِ جافٍ، ولا يعرضا لتشديد غالِ، ولا يُحملا على علة توهن الانقياد".

ويشرح تلميذه ابن القيم -رحمه الله- قول شيخه بقوله: "وعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش عن أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة عند فوت حق من حقوقها.

وعلامة تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، وأن يغضب لله -تعالى- إذا انتهكت محارمه، وأن يجد قلبه حزناً وكسرة إذا عصي الله -تعالى- في أرضه ولم يستطع تغيير ذلك.

ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جفياً غير مستقيم على المنهج الوسط؛ كرخصة الإبراد بالظهر في شدة الحر -أي تأخيره حتى تنكسر موجة الحر- فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصاً جافياً.

وألا يعرض لتشديد غالِ كمن يتوسوس في الوضوء متغالياً حتى يفوته الوقت.

فالمقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله -تعالى- بسالكه، ولا يحمله على علة توهن الانقياد والتسليم لله -تعالى-، بل يسلم لأمر الله -تعالى- وحكمه ممتثلاً ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر؛ فإن ظهرت له رحمة الشرع في أمره ونهيه، حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم ولا يحمله ذلك على الإنسلاخ منه وتركه".أ.هـ.

ثامناً: ألا يقدم قول أحد كائناً من كان على كلامه -تعالى- وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات:1)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".

وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله بقول ولا فعل". 

وقال العلامة السعدي في تفسيره: "هذا متضمن للأدب مع الله -تعالى-، ومع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والتعظيم له، واحترامه وإكرامه؛ فأمر الله عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالله وبرسوله، من امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متابعين لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع أمورهم، وأن لا يتقدموا بين  يدي الله ورسوله، ولا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمر.

فإن هذا حقيقة الأدب الواجب مع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادة الأبدية والنعيم السرمدي، وفي هذا النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها كائناً ما كان".

تاسعاً: ومن الأدب مع الله -تعالى- الوقوف بين يديه طاهراً من الحدث والخبث، ومتجملاً في الظاهر والباطن؛ لقوله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(لأعراف:31)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة -العورة-، وما سوى ذلك من جيد المتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد"، وكذلك قال غير واحد من السلف.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفي هذه الآية وما ورد في معناها من السنة؛ أنه يستحب التجمل عند الصلاة، ولاسيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم...) رواه أحمد بسند صحيح".

وقد ورد عن بعض السلف أنه كان له حُلة بألف دينار يلبسها وقت الصلاة ويقول: "ربي أحق من تجملت له"، ومن أدبه مع الله -تعالى- في صلاة ألا يرفع بصره إلى السماء.

قال ابن تيمية معلقاً على حديث النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة:

"وهذا من كمال الأدب، أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقاً، خافضاً طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق".

ومن الأدب أيضاً وضع اليمنى على اليسرى حال القيام، وكذلك السكون في الصلاة قال -تعالى-: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)(البقرة:238)، أي خاشعين، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)(المعارج:23)، أي ساكنون لا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، وفي حال سماع القرآن أن يُلقي السمع وهو شهيد، وأن يكون شأنه الفهم ثم التطبيق.

كما قال الحسن -رحمه الله-:

"كان الذين من قبلكم ينظرون إلى القرآن على أنه رسائل من ربهم فيتدبرونها بالليل ويطبقونها بالنهار".

وكذلك في حال الركوع يعظم الرب -تعالى- بحيث لا يكون شيء في قلبه أعظم من الله -تعالى-.

وفي حال السجود يعظم ربه ويري ذله وخضوعه لله -تعالى-، وهكذا في كل عبادة لله -تعالى-يؤديها على الوجه الأكمل، ويسأل ربه القبول ويخاف أن ترد عليه، وأن يستحضر المعاني الإيمانية الخاصة بها من انقياده وامتثاله أمر ربه وتعظيمه إياه.

وبعد....

فهذا غيض من فيض في التأدب مع الله -تعالى-، ونسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من أهل أدبه، وأن يوفقنا لمرضاته، وأن يجعل حياتنا خالصة له، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه... آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.