كتبه عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
الأضحية من أبواب العبادات من حيث أنها قربة لله عز وجل، ولكنها معقولة المعنى من جهة الشروط والصفات الواجبة فيها، وقد استشكل أهل زماننا بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالأضحية، لاسيما مع استغراق الكثير منهم في مسألة النظر إلى المعنى مع قصور نظرهم في الغالب عن كثير من المعاني الشرعية، ولذلك كان الوسط والقصد في قضية تعليل الأحكام الشرعية هو إعمال الأدلة ثم التدبر فيما دلت عليه، حينئذ ينكشف للناظر من العلل والحكم ما كان خافياً عليه، فمن تأمل في كون الأضحية شعيرة من شعائر إبراهيم -عليه السلام- فيها منافع معنوية للأمة، لن يسأل السؤال الشائع عن أيهما أفضل الأضحية أم التصدق بثمنها؟
لأنه سيبدو له بجلاء أفضلية ذبح الأضحية، وكذا مسألة أيهما يقدم مراعاة السن أم مراعاة كثرة اللحم؟ والصحيح في ذلك وجوب مراعاة السن وبعد ذلك كثرة اللحم فلا تجزئ الهزيلة، وأما من بلغت السن وسلمت من الهزال فهي مجزأة وكلما ازداد سمنها وكثر لحمها فهي أفضل، مما يعني أن وفرة اللحم صفة مستحبة تضم إلى السن، ولكنها لا تغني عنه وذلك لورود النص الملزم في عين هذه المسألة كما في حديث البراء -رضي الله عنه- قال خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر بعد الصلاة فقال (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ نَسَكْتُ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى الصَّلاةِ وَعَرَفْتُ أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ فَتَعَجَّلْتُ فَأَكَلْتُ وَأَطْعَمْتُ أَهْلِي وَجِيرَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي عَنَاقًا جَذَعَةً وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَهَلْ تُجْزِئُ عَنِّي قَالَ نَعَمْ وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ)(رواه أبو داود وصححه الألباني).
فهذا نص على أن الجذعة من الماعز -وهي أصغر من السن المطلوب حيث يشترط في الماعز أن تكون ثنياً كما سيأتي إن شاء الله تعالى- مع أنها تماثل شاتين بالغتين في عظم اللحم إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجعلها مجزأة إلا في هذه الواقعة لذبحه-يعني أبو بردة بن نيار- قبل الصلاة جهلاً، فدل على أن اعتبار السن مقدم على عظم اللحم، وقد نص الفقهاء على ذلك في كتبهم مما يعني أن الأمر كان يشكل على كثير من الناس في كثير من الأزمنة، وزاد الأمر في زماننا نتيجة اتجاه أذواق الناس في الذبائح إلى استحسان الصغير منها والواجب اتباع الدليل كما قررنا، ثم نتأمل الحكمة فإن وجدناها فبها ونعمت، وإلا اتبعنا الدليل تسليماً وعبودية.
ولكي نتأمل في هذا الحكم علينا أن نتذكر أولاً أن الشرع قد اشترط في الأضحية أن تكون مسنة وهي الثنية -وهو ما أسقطت ثناياه أسنانه اللبنية- وهذا عام في كل أنواع بهيمة الأنعام، ولا يستثنى من ذلك إلا الضأن فإنها يجزئ الجذع منه وإن لم يكن ثنياً، والجذع هو ما امتلأ ظهره لحماً، وإذا رجعنا إلى أهل العلم باللغة والعرف عرفنا النكتة في إجزاء الجذع من الضأن، فقد جاء في لسان العرب وقال الأزهري: "وإنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح، وإذا كان من الماعز لم يلقح حتى يثني"، فكأن القاعدة العامة المطردة هي البلوغ، ولكن البلوغ له علامتين في الضأن وهي الإجذاع أو سقوط الثنايا، وليس له إلا علامة واحدة في غيره من بهيمة الأنعام.
ويبقى أن نشير إلى أن الحكمة في اشتراط البلوغ في الأنساك الشرعية هو إعطاء فرصة أكبر ليحصل أكبر نفع من البهيمة، فإن البهيمة في مرحلة ما قبل البلوغ يكون معدل تحول الغذاء النباتي الذي تأكله إلى لحم معدلا كبيراً –بفضل الله- ففي تركها حتى تبلغ نفع لمالكها ومن ثم لعموم المجتمع، وحتى لو كانت الصغيرة عظيمة اللحم فهذا يعني أنها لو تركت حتى تبلغ لكان لحمها أعظم وأوفر، وهذا ما تحاول بعض القوانين المعاصرة عمله من خلال وضع حد أدنى لسن الذبح، بينما توسط الشرع في هذا الأمر فلم يجعله واجبا إلا في الأنساك الشرعية وهي تستغرق قسماً كبيراً من ذبح المسلمين من الهدي والأضحية والعقيقة، وإذا كان مراعاة البلوغ واجباً في هذه الأنساك فتحسن مراعاته في الجملة، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في الفرع -وهو ذبح أول نتاج الناقة- فقال صلى الله عليه وسلم (وَالْفَرَعُ حَقٌّ وَأَنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بَكْرًا زُخرُبَّا ابْنَ مَخَاضٍ أَوْ ابْنَ لَبُونٍ فَتُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً أَوْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ فَيَلْزَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ وَتَكْفَأَ إِنَاءَكَ وَتُولِهُ نَاقَتَكَ)(رواه أبو داود وحسنه الألباني). ويقال صار ولد الناقة زُخرُبَّاً إذا غلظ جسمه واشتد لحمه.
فهنا أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عدم ذبح الصغير حتى ولو كان للصدقة ونصح بتركه حتى يحمل اللحم -وإن لم يشترط البلوغ- وبين أن الصغير لا يوجد كبير نفع في ذبحه، حيث يكون قليل اللحم –يلزق لحمه بوبره- ويكون في ذبحه إحزان للناقة الأم ومنع للبنها الذي كان ينتفع به صاحبها.
وأما مسألة الجلد فقد جاء النهي المغلظ فيها حتى قال صلى الله عليه وسلم (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)(رواه الحاكم والبيهقي وحسنه الألباني)، ولعل إعطاء الجلد للجازر كأجرة أو كجزء منها كان شائعاً منذ زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- فلذلك حذر عليه الصلاة والسلام من إعطائها للجازر، فعن على بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال (أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا قَالَ نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا) متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
والحكمة في ذلك ظاهرة حيث أن الأضحية قربان يقدمه الإنسان إلى ربه، فالأصل أنه ليس له فيه شيء، إلا أن الله يرده إلى صاحبه هدية يأكل منها ويتصدق بما زاد، فبيع أي جزء منها إخراج لها عن هذا القدر الرفيع، وعلى الرغم من وضوح المسألة شرعاً وعقلاً إلا أن العلماء نظروا في المسألة تحت إلحاح أسئلة السائلين لاسيما في شأن الجلد حيث يقل انتفاع عامة الناس به لاسيما في البقر والإبل فلا يكون له إلا البيع، مع أن الأمر مازال ميسوراً بأن يتصدق المضحي بجلد أضحيته ثم يقوم المتصدَق عليه ببيعه؛ فهذا الذي جعل بعض أهل العلم يرى جواز بيع جلد الأضحية بنية التصدق بثمنه.
وهؤلاء لم يراعوا أن النهي المغلظ في شأن بيع جلد الأضحية لا يمكن الخروج عنه إلا متى وجدت ضرورة ولا ضرورة هنا بل ولا حاجة، أو على الأقل فإن الحاجة المدَّعاة هنا كان يوجد مثلها في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك بالغ في التحذير من بيع الجلد، بالإضافة إلى أن الترخيص في بيع الجلد بنية الصدقة بثمنه ذريعة إلى انتفاع المضحِي بثمنه مع طول العهد وتقادم الزمان، وهذا مثال واقعي لذلك تكرر مع أكثر من واحد أسوقه بأرقامه لتتضح الصورة، أتى الجازر إلى المضحِّي وكانت الأضحية بقرة وطلب 200 (مائتي) جنيه، مائة نقداً والجلد بمائة أخرى، فلما أصر المضحِي على أن يدفع الأجرة كلها نقداً طلب الجازر 250 جنيهاً، مما يعني أن المضحي لو وافق على العرض الأول وأخرج مائة جنيه عوضاً عن الجلد فسوف يكون منتفعاً بخمسين جنيها، حيث أن الجازر قد وقى نفسه مساومة المضحي ببخس ثمن الجلد.
ثم إنه يُخشى إن فُتح هذا الباب أن يؤدي إلى بيع ما في داخل الأحشاء ثم إلى بيع اللحم المختلط بالدهن وهلم جرا... والعلة في الجميع ستكون أن ثمنه أفضل منه، فحصل من ذلك أن المنع التام من بيع الجلد ولو مع التصدق بثمنه هو الموافق للمنقول والمعقول.
ومن فروع إغفال الناس لكون الأضحية هدية وقربان، واختزال معناها في اللحم تساهلهم بعيوب بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوى أنها لا تؤثر على طيب اللحم وهؤلاء ذهلوا عن أن الهدية يجب أن يراعي فيها المظهر والجوهر معاً، وهذا واجب في الأضحية والنسك، ومستحب في سائر الصدقات حتى ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تطيب الدنانير والدراهم قبل أن تتصدق بها.
--------------------------------------------
فائدة كتبها الشيخ ياسر برهامي حفظه الله:
أما جمع الجمعيات الخيرية والمساجد جلود الأضاحي وبيعها والتصدق بثمنها إما على الفقراء أو في المصالح كنفقات المساجد وغيرها، فهي أيضاً صورة حقيقتها بيع جلد الأضحية، لأن هذه الجمعيات والمساجد وكيلة عن الأغنياء لا الفقراء إلا إذا أخذ القائمون عليها توكيلاً واضحاً من فقراء معينين بأنهم يقبضون لهم لحوم الأضاحي وجلودها فيبيعونها لهم ويعطونهم ثمنها. وتصرف وكيل الغني بالبيع كتصرفه، ففي الحقيقة يكون الأغنياء المضحون قد باعوا جلد أضحيتهم للتصدق بثمنها، وأبعد هذه الصورة عن الجواز من يجعل هذه الأموال لغير الفقراء والمساكين ظاناً أن المسجد يتملك، والمسجد لا يتملك شيئاً، والأوقاف لو وقفت عليه فلابد أن تُستعمل كما هي حتى تبلى، ومعلوم أنهم يأخذون الجلود لا لتوقف على المسجد، بل لتباع فهي إذن لم تخرج من ملك المضحي إلا بالبيع الذي قامت به الجمعية أو المسجد فلا يجوز ذلك.أ.هـ